قصة عين زبيدة وخاتم الرشيد
بقلم مؤمنة الجوخي
1- الوصية
شددتُ آخر أمتعتي فوق الناقة، وجذبتُ رأسها إلى الماء مجدداً، لتستقي حتى الارتواء، فالطريق طويلة والمسير شاق.
أنفقتْ أمي سحابة النهار وشطراً من الليل تهيئ لي الزاد والمتاع، وتجتهد كي لا تنسى شيئاً.
لم أر وجهها منذ البارحة إلا لمحات، أما عيوننا فلم تلتق أبداً. كانت أمي تداري سحابتين مثقلتين بالدموع،
وها قد آن أوان هطلهما، فقد أزفت ساعة الوداع!
ضممتها إلى صدري وقلت: هوني عليك يا أماه، فأنا مسافرلأعظم الطاعات، حج بيت الله الحرام.
قالت: جعل الله حجك مبروراً، وسفرك ميسوراً يا ولدي. ما حزني إلا لجرحٍ في قلبي لا يزال غضاً، إذ لم يمض أسبوع بعد على وفاة والدك رحمه الله.
قلت: ما كنت لأدعك يا أماه لولا وصيته لي أن أحج عنه هذا العام، ولابد أن أنطلق اليوم من خراسان إلى الكوفة، كي لا تفوتني القافلة التي ستغادر إلى الديار المقدسة في غرة ذي القعدة.
تركتني أمي فجأة، ذهبتْ هنيهة ثم عادت. دفعت إليّ كتاباً مهترئاً وقالت: الحمد لله أنني تذكرته!
لقد كتبه والدك في شبابه يصف فيه طريق حجه، خذه لعلك تجد فيه نفعاً.
قلت في نفسي: أحمد الله أن والدتي لا تحسن قراءة العربية – مع أنها تحفظ القرآن الكريم – حتى لا تغتم لاسم الكتاب “مهالك الطريق نحوالبيت العتيق”
أستودعتها واستودعتني ثم انطلقتُ على بركة الله.
2- منازل الطريق
تجمع الحجاج عند مصلى الكوفة الكبير، فصلوا الظهر والعصر جماعة، ثم ابتهلوا إلى الله بالسلامة والمعونة، ودعوا بطول العمر للخليفة المأمون لِما أغدق على الركب من نفقة سابغة.
كانوا يتجهزون ريثما تدق الطبول إيذاناً بالتحرك، بأمرمن أميرالحج.
وردتُ حوض الماء، فسقيت راحلتي ثم أنختها، وقعدت بجوارها أقلّب في كتاب والدي، لأطّلع على معالم الطريق.
تصفحت مقدمة الكتاب على عجل، وفيها أسهب والدي في ذكر وعثاء السفر ومخاطر السكك في المفازات المقفرة، ثم عدد المنازل قبل تفصيل ما فيها، فقرأت بعجالة:
يقع أول مورد للماء في (المُغيثة) وما لها من اسمها نصيب، فماؤها عكر، وهواؤها غبار..
وقد تسير ثلاثة أيام لتصل إلى (العمياء) أما هذه فاسمها يوافقها، فهي أرض حجرية لا تمسك الماء..
وبعد مراحل تصل (القاع) وأرضها رملية، تغوص فيها حوافر الدواب، فيها مصنع صغير ماؤه طين.
فإذا بلغت موقع (زُبالة) رأيت مدينة تضيق بأهليها ووافديها، فلا تنبسط النفس إلا بالخروج منها..
ويتقلّب المسافر بعدها بين مفازة جرداء وفلاة قفراء، يندر فيها الماء، فإن وجدت بئراً كانت غير عذبة وبعدها (الثعلبية) وتقع في ثلث الطريق…
ثم (زَرُود) وتحتوي عروقاً من الرمال تبتلع الماء…
حتى تصل (فَيْد) وهي مدينة فيها ينتصف الطريق، وفيها ينكبّ الحجاج على ابتياع ما يرفد رحلتهم.
ثم (معدَن) حيث يتفرع الطريق إلى مكة والمدينة…
ثم (الرَبَذة) (فالغَمْرة) وفيهما حفر وآبار لم تطو.وبعدها صحراء لا عمارة فيها..
حتى (أوطاس) ملتقى طريق الكوفة مع البصرة..
ثم تصل ميقات (ذات عِرق) وتليها (مكة) حرسها الله.
أغلقتُ الكتاب، ونظرتُ إلى عِظَم الجمع، فتخوّفت عليهم نقص الماء في الطريق، فرفعتُ يديَّ أدعوالله للقافلة بالسلامة والتيسير.
وما لبث أن أقبل إليَّ شيخٌ وقور، متكئ ٌعلى عصاه، فجلس بجواري، وأخذ يتبسّط لي في الحديث، وعرفتُ أنه كوفي واسمه يعقوب، وأنه يحج بمفرده.
أرسله أمير القافلة إليَّ لأحمله معي، لأنه لا يقوى على سوق الراحلة. فرحّبتُ بصحبته، وتوسمتُ في وجهه الخير.
قال الشيخ: ستكون ولدي بعهد الله، فهل تصبر عليَّ وتعينني، وتواثقني على ذلك؟
قلتُ: أبشرْ يا أبتاه بخير رفقة، فلن تجد أكثر مني محالفةً وأقل مخالفةً.
دُقت الطبول وانطلقنا عند الفجرعلى بِركة الله.
أردفتُ الشيخ يعقوب ورائي وسرنا، وما أن تجاوزنا الحواضر حتى أصبحت الأرض حولنا حجرية صلدة، لكنَّنا كنا نمشي على درب ممهدة مستوية.
انتصف النهار فنادى المنادي للاستراحة، فنزلنا في بقعة خصيبة، فيها بِركة يُصب الماء فيه عذباً.
قال الشيخ يعقوب: هذه بِركة (عُذَيب) وقد رُفدتْ بمياه جُرّتْ من عينٍ قريبةٍ.
قلتُ في نفسي: أليس أول ماءٍ في المغيثة!
وفي اليومين التاليين مشينا في أرض رملية ناعمة، وكان الدرب معبداً، مزوّداً بالمناهل والمصانع، وثُبـّتتْ فيه الأميال (الأحجار المرقمة) لتدل على الطريق، ورُفعت المشاعل على الوهاد، لتوقد ليلاً لتدل المسافرين.
فلما بلغنا المغيثة رأينا بِركة كبيرة مربعة، ماؤها فرات، ويحدق بها النخيل، فنزل القوم للاستراحة حامدين شاكرين، داعين لأصحاب الأيادي البيضاء.
فكرتُ: لعل بقية الطريق خيرٌ من وصفه في الكتاب، وصدق ظني!
فقد كانت منزلة العمياء معمورة ٌآمنة، ماؤها زلال، ولم تكن القاع رملية موحلة، بل كانت عامرة طيبة، تزخر بالحياة.
أثار نظري في الكتاب فضول الشيخ، فأخبرته.
قال: صدق أبوك، فقد كابد الحجاج قبل إعمار درب الحج من المشقة والظمأ، ما جعل الناس يسمُّون الذاهب مفقود، والعائد مولود.
سألتُ: ومن صاحب ذاك الفضل في إعمار الدرب؟
الشيخ: ذلك فضل الله، إذ سخر لحجيج بيته سيدة من خيرة النساء، هي زبيدة أم جعفر رحمها الله.
قلتُ: أليست والدة الخليفة المأمون حفظه الله؟
الشيخ: بل امرأة أبيه هارون الرشيد، ولكنها ربّته في حجرها مع ولدها الأمين.
بينما نحن نتحدث إذ عصفت ريح غربية، فما استطاع متنفِسٌ أن يتنفس إلا غباراً.
دقت الطبول، فنزلنا عند متعشى صغير، مزوّد بصهريج ماء، وقد حلَّ بعض الأعراب قريباً منه فاستأنسنا بهم.
قال الشيخ: سنصل إن شاء الله في صباح الثلاثاء إلى القاع وهومنزلة مأهولة، يأوي إليها الحجاج، فتعمهم رياً وشبعاً، فيها قصر مشيد وبركتين كبيرتين.
قلت: يبدوأنك على دراية بالطريق.
قال: نعم يا بني، كان الرشيد رحمه الله يحج عاماً ويغزوعاماً، وإذا حج أحج معه ثلاثمائة حاج بنفقاتهم الكاملة، فكنت أحج معهم.
وفي إحدى السنوات رافقتُ ركب السيدة زبيدة، فرأتْ بنفسها ما يكابدونه من مرارة الظمأ، وندرة الماء، فأقسمت أن تعمل على ألا يموت حاج من العطش.
ولما عادت الى بغداد أمرتْ بحط الجبال ونحت الصخر لتشييد قناة تجر مياه الحل إلى الحرم، فتسقي مكة والمشاعر المقدسة.
وأتمت صنيعها بإعمار دروب الحجّ من العراق إلى مكة، وكل ما تراه يا بني من محطات ومنازل ودروب ممهدة، ومنافع تعمُّ وفد الله، هوبعنايتها، ندبت له عمرها، وأنفقت عليه ذخائرها، تقرباً إلى ربها.
قلت: لا بد أنها أنفقت مالاً عظيماً!
قال: لقد أنفقت في أعمال مكة وحدها، حوالي سبعمائة وألف ألف دينار من الذهب، أما الدرب فقد تفرقت مصارفه فلم تحسب كاملة، وتقدر بـمئة و….. وتوقف فجأة عن الكلام ثم تدثر بعباءته وقال: دعنا من هذا الآن ولنخلد إلى النوم.
توقفتُ عن سؤاله، ولكنني تساءلت: ألم تكن حَجتهُ معها قبل شروعها بالعمل، فكيف عرف النفقة؟
3- الطبرستاني
وصلنا إلى محلة عامرة مزدهرة تدعى زُبالة فيها بِركة كبيرة مدورة وآبارعميقة منحوتة في الصخر ومسجد كبير، وتابعنا إلى الشقوق ثم البطان وفيها جداران يوجهان الماء نحو بِركة عظيمة، وذلك مما أبدعه الصناع.
ثم وصلنا الثعلبية حيث ثلث الطريق، وهي مدينة كبيرة يصدر الحجاج عنها ويردون، فيها بِركة مستطيلة من أوسع البرك، لها أدراج.
افترقتُ عن صاحبي في السوق لأتزود بما أحتاج، وتركت الراحلة في الحظيرة تُعلف، واتفقنا أن نلتقي في المسجد عند صلاة الظهر.
قُضيَتُ الصلاة، وانفضَّ المصلون، ولم يأت الشيخ، وطال انتظاري، فأخذتني سِنة من نوم.
أفقتُ ولم أجده، فخرجتُ من باب المسجد مسرعاً، فجذبتني يد من خلفي! التفتُّ ورائي فإذا الشيخ يعقوب يشير إليّ أن أصمتَ وأتبعه!
غادرنا الثعلبية سراعاً على حين غفلة من القافلة، ثم طلب مني أن أسلك غير درب الحج فرفضتُ، فأقسم عليَّ وذكّرني بما تواثقنا عليه، فمضيت حيث أمرني.
قطعنا أرضاً منبسطة لا يدرك الطَرْف مداها، ولا أعلم كيف يعرفها، ثم قادني إلى تلة عجيبة مدببة الرأس، فذهبنا خلفها، ثم نزل.
شاهدتُ أربعة قبور، وكان أحدها فارغاً! جلس الشيخ منهكاً وأطرق يدعو الله، فسقيته وجلستُ بقربه.
هل تجشمنا كل هذا العناء ليزور قبور أحبائه!
قلتُ: رحمهم الله، من كانوا يا شيخ؟
قال: اجلس يا ولدي أحدثك.
كنتُ شاباً، وخرجتُ مع قافلة إلى الحج، قبل إنشاء درب زبيدة رحمها الله. قطعنا صحراء مقفرة يشبه بعضها بعضاً، فضللنا وسلكنا غير طريق الماء.
عاد بعض الحجاج أدراجهم، ومات بعضهم بالمرض، ولم ينج منا إلا خمسة رجال أحدهم رجل من طبرستان.
تواثقنا أن لا نبرح حتى نبلغ مكة حرسها الله.
تابع الشيخ يعقوب: سرنا أياماً في سكك مهلكة، وإذ بعصابة ملثمة تقترب منا، فتوجسنا خيفة، واتفقنا أن ندفن أموالنا تحت صخرة علّمناها، وتعاهدنا على الكتمان.
فلما وصلوا فتشونا فما وجدوا مالاً، فأنذرونا بالويل والثبور. فجَبُن الطبرستاني ودلّهم على موضع المال، فسلبوه وانصرفوا، تاركين لنا قربة ماء واحدة.
أقبل الرجال على الطبرستاني وأخذوا يعنفونه ويلومونه، ثم انطلقنا نمشي، ليس معنا إلا قربة ماء وحمار نعتقب عليه.
تعاهدنا أن نُقتِّر في الماء لنحفظ أرواحنا، فصارالرجل منا يشرب ما يكفي عصفوراً.
كنا نتظلل إذا أوقدت الشمس نارها، ونمشي إذا خف أوارها، وننام حيث جُنَّ علينا الليل.
ثم رأينا هذه التلة من بعيد، فعزمنا على اعتلائها لنرى مكان الماء.
وقبل التلة بقليل نفق الحمار من العطش، فأخذتُ القربة من على ظهره، وتركناه.
جلسنا في ظل التلة، وفتحتُ القربة وإذ هي فارغة!! وكان الطبرستاني آخرنا شرباً، فإمَّا أنه شربها كلها، أو أنه لم يوثق فاها، فأراق الماء.
أقبل الجميع عليه يشتمونه، حتى بكى كطفل، ولا ندري ما يقول بلسانه الأعجمي.
خارت قوانا فنمنا كالهلكى، فلما أفقنا لم نجد الطبرستاني.
واشتد علينا العطش فأيقنا بالهلاك فقال رجل: ليحفر كلٌّ منا قبره، فإن مات دفنه أصحابه، تكريماً لجثمانه.
حفرنا أربعة قبور، وجلسنا ننتظر آجالنا. وأكل أحدنا شوكاً ساماً فتلوى ألماً ثم مات. فيممناه وصلينا عليه ودفناه .
وفجأة انتفض صاحبي ويدعى مسرور واقفاً وقال: كلا والله لن نستسلم للموت عطشاً! ما خرجنا إلا طاعة لربنا، فلنسعَ كما سعت هاجر بين الصفا والمروة، ولندعه باسمه المغيث، ولن يخيبنا.
صعد مسرور التلة بشِق الأنفس فرأى هيئة بئر، فابتهجنا ومشينا إليها، فلم نجد فيها حبلاً.
رجعتُ حيث الحمار لأحضر الحبل، وعندها أصبتُ بالذهول!
وجدتُ في محمله قربةً ملأى بالماء!!
سجدتُ لله شكراً، وأدركتُ أننا أخذنا قربة فارغة تشبهها، فاستغفرنا الله من ظلمنا للطبرستاني.
لم يكن ثمة ماء في البئر، بل وجدنا الطبرستاني قد وقع ودُقت عنقه.
سمعتُ غصّة في صوت الشيخ يعقوب وهو يقول: رحمه الله، وبعثه إن شاء الله ملبياً.
ثم استأنف: صلينا عليه ودفناه في أحد القبور. ثم أشعلنا ناراً وشوينا من لحم الحمار النافق، غفر الله لنا.
واستجاب الله تضرعنا! فعند الفجر شاهدنا في الأفق ركباً عظيماً مقبلاً نحونا، كان موكب ولي عهد الخليفة هارون الرشيد، فالتحقنا به، ولله الحمد والمنة.
4- الوديعة
أخرج الشيخ مجرفة صغيرة من كمّه، وشرع يحفر أحد القبور!
قبضتُ على يده وقلت: ماذا تفعل، ألا ترعى حرمة الموتى؟ ألم يردعك تلبسك بالحج!
قال: لقد استودعتُ في هذا المكان وديعة وجئتُ أستردها.
قلت: وديعةٌ في قبر؟!
قال: ألا تذكر أننا دفنا رجلين؟ أمّا هذا الثالث فهو قبري الذي حفرته، ولقد دفنتُ فيه ما لا يقدر بثمن.
تابع الشيخ الحفر ببطء، يرتاح ثم يعاود الحفر بيدين مرتجفتين.
أخذتُ منه المجرفة وبدأت الحفر وقلت: لا أريد أن تفوتني قافلة الحج لأجل هذا.
عملتُ بجدّ أحفر وأنبش لأزيح الرمال، حفرتُ بطول قامة إنسان، ثم سمعتُ نقرة فأسرعتُ بالحفر، واستخرجتُ صندوقاً صغيراً.
تهللت أسارير الشيخ، وتبدّلت ملامحه، خطف الصندوق من يدي ودسَّه في جيبه وتلا:
(إنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوْا الأمَانَاتِ إِلى أهْلِهَا) اللهم أعني على الأداء كما تحبُّ وترضى.
فعلمتُ أنه أمانة.
عدنا أدراجنا وصمت الصحراء يكتنفنا، وصلنا الثعلبية فإذا بقافلتنا قد رحلت!
ثارت ثائرتي، وصرتُ أصيح بالشيخ: هاقد فاتتني القافلة! لأمرٍ ما خيِّرتُ فيه وما اخترتُه، ماليَ وللودائع والأمانات؟ إنما خرجت حاجاً بيت الله.
أقبل الشيخ علي يصمّتني، ويعظني، ثم جعل يطمئنني بأننا سندرك القافلة في فيد حيث ينتصف الطريق فيمكث الحجاج أياماً للتزود بما يحتاجونه، أوللتخفف مما يحملونه، أو يسوقون هديهم.
قررتُ عدم المبيت في الثعلبية، فانطلقنا على الناقة وحدنا، فقد رأينا أن مرافق الدرب مهيأة.
لم نكد نقطع فرسخاً من الأرض، حتى أوشك الشيخ أن يسقط من التعب، فنزلنا عند منهل، فشربتْ الناقة ونام الشيخ وتنحيتُ إلى ظل وغفوتُ.
أيقظني صوت غريب!! كأنه أنين مكتوم، وتبعه رُغاء ناقة عالٍ، فاستعذتُ بالله ووثبتُ.
رأيتُ رجلاً ملثماً قد انحنى فوق الشيخ وسدَّ فمه بخرقة، يكاد أن يخنقه.. والناقة تُرغي وتُزبد، وتركل بأخفافها، تحاول فكّ عِقالها.
صرختُ صرخة منكرة، وانقضضتُ على الغريب كالسبع، وأمسكتُ بتلابيبه، لكنه تملّص مني واستطاع الإفلات، فعدا نحو فرسه وأطلق ساقيها للريح.
كان الشيخ في حالة يرثى لها، أنفاسه تتقطع، ووجهه مزرق. همس بصوت خائر: لصّ.. يبتغي الأمانة… لقد سمِعنا….تعقبنا من الثعلبية.
أضجعته وسقيتُه، ورششتُ الماء على وجهه، ودعكتُ صدره.
فلما التقط أنفاسه قليلاً قال: الأمانة!.. الأمانة!.. وأشار إلى إزاره فاستخرجتُ الصندوق منه.
ثم وشوش: في مكة.. دار الخيزُران… خالصة .. ومسرور.. الأمانة! ثم أرسل حشرجة عالية، وأسلم الروح.
بكيتُ على الشيخ كما لم أبكِ من قبل، كنتُ بين صحراء وسماء، وهاتان لا تعيّران الرجل بدموعه، فسكبتُ ما حبسته منها عندما مات أبي، وعلا نشيجي، وتردد في الفلاة.
غسّلت الجثمان وكفنتُه وأردفتُه ورائي، ورجعتُ به إلى التلة المدببة، فصليت عليه ودفنتُه في القبر الذي حفره بيديه قبل سنوات طويلة، لكن لكل أجل كتاب.
أكملتُ المسير نحو فيد وحيداً مكروباً، قد خفّ حمل راحلتي، وحُمِّلتُ ما أشفقتْ من حملها الجبال، الأمانة!
وصلتُ فيد وهي من أحفل المدن بالقوافل، أما ماؤها فينساب من العيون والآبار المجاورة، في قنوات محفورة، وهي من الآثار الكريمة لأم جعفر.
وجدتُ قافلتي، فسعدوا لعودتي، ثم صلينا على الشيخ صلاة الغائب قبل أن ننطلق.
وصلنا إلى معدن حيث يتفرع الطريق فرعين القرشي نحو مكة والنقرة نحو المدينة، ثم تابعنا إلى أوطاس حيث يلتقي طريقنا بطريق البصرة، ثم ميقات أهل العراق ذات عرق حيث يكتظ الحجاج، ويتهيؤون بالإحرام.
5- حلاوة التوحيد
على مشارف مكة التقت وفود الرحمن من كل فج عميق، وأهلُّوا بالتلبية والتكبير، وانسكبت العبرات، وهاجت الأشواق للبيت الحرام.
دخلنا لابسين لباس الإحرام، خفق قلبي، واقشعر جلدي، ونظرتُ إلى الكعبة المشرفة -زادها الله تعظيماً وتشريفاً- فرأيتها احتجبت وراء غلالة من دموعي، وطفقتُ أطوف وأردد مع الجموع لبيك اللهم لبيك!
أطوف فيتزكى قلبي، وأسعى فتحيا همتي، وأقف في عرفات فترقى روحي، وأرجم فتتطهر نفسي.
تجردتُ من كل شيء، لا أرى غير الله، ولا أرجو سوى مغفرته ورضاه، إنها حلاوة التوحيد.
6- عين زبيدة
أتممنا الحج بفضل الله، وانهمك الحجاج بحزم أمتعتهم، سائلين المولى القبول وسلامة الوصول.
أما أنا فكان يشغلني أمر واحد، أداء الأمانة التي حمّلنيها الشيخ يعقوب.
وتذكرتُ كلامه: (في مكة.. دار الخيزُران… هناك خالصة … و مسرور)
سألتُ عن دار الخيزُران، فقيل: إنها دار للحجاج أوقفتها الخيزُران جدة الخليفة المأمون -رحمها الله- تقع في زقاق على يسار الصاعد إلى الصفا. دخلتُ الدار فانفتحت أمامي فسحة سماوية تحيط بها الغرف، ويعج فيها النزلاء. سألتُ عن اسم خالصة، فقيل: إنها ناظرة الوقف.
ولم تكن خالصة في الدار بل انطلقتْ مع صويحباتها لجلب الماء من عين زبيدة.
اقتربتُ من رجل بدا أنه من أهل مكة فسألتُه: أين تقع عين زبيدة؟
ابتسم وقال: ألاتعرفها يا حاج! ألم تستقِ من المياه الموفورة، وتنتفع من البرك في المشاعر المقدسة! كل هذه الأعمال يسميها الناس عين زبيدة.
قلت: بلى ولله الحمد، أهي ماء حل أم حرم؟
قال: بل ماء حل، تُستنبط من جبال مكة، وتنساب عبر قنوات عجيبة البناء، مبهجة للنظر، وتنتهي في تلك البرك والأحواض.
سألتُ: وهل تصل إلى مكة، أم أن ماء زمزم تكفيها؟
أجابني: إن زمزم ماء مبارك، وآية بينة وأهل مكة يتحرجون من صرفه لغير الشرب والتداوي، وقد حفرت زبيدة جبّ ضخم قرب مكة، تصب فيها قناة آتية من عين وادي النعمان للسقاية.
وما لبثنا أن أقبلتْ خالصة وكانت امرأة مسنة، تعلوها الهيبةً والوقار.
فأخبرتها أنني أبحث عن رجل اسمه مسرور فقالت: هلمَّ معي يا بني!
قادتني في درب ضيقة صاعدة، تتخلل أبنية من الطوب متلاصقة، لها نوافذ خشبية بارزة، لتمنع لفح الشمس، وتستر ما فيها.
دخلنا بيتاً منها، فكان هناك شيخ شديد السمرة، منير الوجه، اجتمع عليه السقم والزمن فنالا من قوته.
سلمت عليه، فرحب بي وقال أن اسمه مسرور وقد كان الخادم المخلَص للخليفة هارون الرشيد رحمه الله، وامرأته خالصة وكانت وصيفة السيدة زبيدة رحمها الله.
حدثتهما عن نفسي ورحلتي وعن الشيخ يعقوب ووفاته والأمانة التي أحملها.
غشيَتْ وجه مسرورسحابة حزن فأطرق ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! تغمدك الله برحمته يا أخي.
قلتُ: هل هو أخوك؟
مسرور: هو رفيقي في الحج، وفي خدمة الرشيد، كنت خادمه المخلص، وكان الخازن الأمين.
قلت: الشيخ يعقوب خازن الرشيد!!
7- خاتُم الرشيد
خالصة: كان يعقوب خازناً أميناً ورعاً، فأوكلتْ السيدة زبيدة إليه حساب وتدوين مصارف المال الهائلة لأعمال عين ودرب زبيدة خلال عشر سنوات، فجعلها في سجلات ضخمة.
قلت لنفسي: لهذا عرف قيمة النفقة بدقة!
خالصة: فلما انتهى العمل، أمسكتْ أم جعفر بالسجلات، وألقتْ بها في نهر دجلة.
قلت: لماذا!؟
سمعتُها تقول: تركنا الحسابَ ليوم الحساب، من كان لنا شيءٌ عندَه سامحناه، ومن كان له شيءٌ عندنا أعطيناهُ وأجزلنا له العطيّة!
أخرجتُ الصندوق الصغير وأعطيته لمسرور، فردّهُ ولم يقبله وقال لي: أتعرف ما فيه؟
قلت: لا!
ابتسم مسرور وقال: إنه خاتم لا يقدر بثمن! فاسمع مني خبره،
عندما كان الخليفة هارون يافعاً، اختصه جده الخليفة أبو جعفر المنصور بخاتم نفيس لِما شاهد من عقله ورشده، فغضب أخوه الهادي وطلب الخاتم فرفض هارون.
وبعد سنوات طويلة، انتهت الخلافة إلى الهادي، فبعث رسولاً إلى أخيه هارون ليسلمه الخاتم، فألقى الرشيد الخاتم إلى الرسول، فأسقطه في دجلة عمداً.
وفي أول يوم لخلافة الرشيد أرسل الغواصين وراء الخاتم فوجدوه، فأسعده ذلك كثيراً.
وبعد وفاة الخليفة هارون، وتولي الأمين بن زبيدة، ظلت تحتفظ بالخاتم حتى شعرت بدنوِّ أجلها، فأرسلت إليَّ وإلى يعقوب سراً، وأوصتنا بتسليم الخاتم للخليفة المأمون، راجية أن يبقى خاتم الخلافة متوارثاً بين أعظم خلفاء بني العباس شأناً.
سألتُ: ولماذا لم تسلماه للمأمون؟
أجاب: خشينا على أنفسنا، فقد صارت الاتهامات تُكال جزافاً لحاشية الرشيد، فتوارى يعقوب في الكوفة، والتجأتُ إلى الحرم، ولم نجد مكاناً للخاتم يعرفه كلانا خيراً من القبور التي حفرناها، وقد عجزتُ عن العودة إلى هناك لسقمي، أما يعقوب فلانشغاله بعمله في الكوفة.
وضع مسرور يده على كتفي وقال: وقدَّر الله أن يصلك الخاتم، لتكون أنت من أنفذ وصية أم جعفر رحمها الله.
قلتُ: أنا! وكيف ذلك؟
قال: لن تَعدم الحيلة ولن تعوزك الوسيلة.
8- بين العين والخاتم
دخل الإمام الفقيه يحيى على الخليفة المأمون في مجلسه، فرحب المأمون به وأجلسه بجواره، فهذه هي المرة الأولى التي يأتي إليه بلا دعوة لمناظرة أو مدارسة، فالفقيه يحيى رفيع القدر، عظيم الشأن بين الخاصة والعامة، والمأمون يوقّر العلماء ويقدّر العلم.
المأمون: هل جئت لتطلعنا على ما رجح عندك من رأي في مسائل فقهية جديدة يا إمام؟
يحيى: زادك الله حرصاً على العلم يا أمير المؤمنين، لقد جئت لشيء آخر، أحب أن لا يسمعه غيرك.
انصرف الجميع وأصاخ المأمون سمعه للإمام.
الإمام: بالأمس في المسجد، بعد أن انفض الطلاب من مجلس الفقه جاءني شاب ملثم لا أعرفه.
فأعطاني هذا الصندوق وقال: إنها أمانة للخليفة المأمون ثبَّت الله حكمه، وأغلظ عليّ بالقسم أن أسلمّها لك بنفسي، فهاك وديعتك كما هي، لا أدري ما فيها.
فتح المأمون الصندوق فهتف جذلاً فرحاً: خاتم الرشيد!!
وكان مع الخاتم ورقة صغيرة، قرأها الخليفة فاغرورقت عيناه بالدموع.
(هنيئاً لخليفة المسلمين بخاتم لا يقدر بثمن، وهنيئا للرعية بك، أمك التي لم تلدك، زبيدة)
المأمون: بل هنيئاً لك يا ساقية الحجيج خير الصدقة سقيا الماء، إن أعمالكِ الجليلة في منافع المسلمين هي التي لا تقدر بثمن يا أماه، رحمك الله وأكرمك بالقبول وسقاك من حوض الرسول، عليه الصلاة والسلام.
………
اندثر خاتم الخلافة على مر التاريخ، لكن عين زبيدة بقيت نحو اثني عشر قرناً وقفاً عظيماً يسقي الحجيج. مياه جارية تسقي ضيوف الرحمن، وصدقة جارية تملأ الميزان..
ميزان السيدة الجليلة زبيدة زوجة خير ملوك الأرض هارون الرشيد.