makkah story

اطلب مرشد سياحي متخصص

    اصنع قصتك

    احصل على ملف يضم ذكرياتك على بريدك الالكتروني 🌎

      رواية تحت الشجرة

      بقلم : مؤمنة الجوخي

      الفصل الأول: الانعطاف

      انحرف سائق الحافلة يساراً تاركاً الطريق الجديد من جدة إلى مكة ، ودخل منعطفاً أفضى به إلى الطريق القديم.

      قال مرشد الحملة: نحن الآن نتجه إلى (الشميسي)

      تململ بعض الركاب، وتساءل رجل: وما الشميسي! ألا ترى أننا بلباس الإحرام يا أخي ومتشوقون للذهاب إلى مكة!

      ابتسم المرشد وقال: أعلم هذا يا حاج، لكن بقية الفوج قد تأخر في المطار، وسنغتنم الوقت ونعرفكم على أحد الأماكن المأثور فضلها لإحلال النبي ﷺ فيها، وكانت منعطفاً مهماً في السيرة النبوية، إنها (الحديبية) 

      قلت في نفسي: سبحان الله! قبل أربعة عشر قرناً خرج الصحابة الكرام من المدينة معتمرين، تتشوق أرواحهم للبيت الحرام، وإذ برسول الله ﷺ ينعطف بهم إلى الحديبية، ولم يدروا حينئذ أنه سيكون منعطفاً نحو الفتح المبين.

      وصلنا الشميسي والتي تبعد حوالي خمسة وعشرين كيلومتراً عن مكة، فطالعنا مسجد صغير يسمى (مسجد الشميسي- الحديبية) وقد بدا خلفه سور يحجز بقايا مصلى أثري ذي أحجار ملونة، وبقربه سبيل ماء قديم.

      قال محدثنا: هذه أرض الحديبية، ويزعم البعض أن هذا المسجد قد أقيم في موقع بيعة الرضوان.

      صلينا ركعتين خفيفتين، ثم دعانا المرشد لنتابع جولتنا، فقادنا إلى بئر قديمة، غطيت بشبك معدني وعُلّمت بعمودين صغيرين.

      سأل رجل: هل هذه البئر التي تفجرت معجزة للنبي ﷺ ؟

      أجابه: لم يثبت ذلك، والله أعلم!

      مشينا قليلاً فبدا لنا عمود أثري مربع عليه ثلاث قباب، وبجواره عمود مستطيل متوج فخم، ويحاذيهما من بعيد عمودان يطابقانهما.

      أشار المرشد إلى العمود المقبب وقال: هذا هو العلَم القديم لحد الحرم، وعمره مئتي عام تقريباً، أما الآخر فبني مع تأسيس المملكة. ويشير العَلَم إلى انتهاء أرض الحِل وبداية أرض الحرم.

      اجتاز المعتمرون العَلَم، ودخلوا مصلى صغير، و انكبوا على الصلاة والدعاء، ففي الحرم تتضاعف الأجور.

      أما أنا فاستأذنتُ المرشد في العودة إلى الحديبية، فعندي شغف بالمواقع المرتبطة بسيرة المصطفى ﷺ.

      دخلت مسجد الشميسي، وصليت ما شاء الله لي أن أصلي، ثم أسندتُ ظهري إلى جدار، وأغمضت ُعينيّ… هل حقاً هذا هو المكان الذي أنزل الله فيه رضوانه وسكينته ؟!

      تلوتُ الآية الكريمة:”لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا”[1]

       تساءلت: أين موضع تلك الشجرة المباركة يا ترى؟!

      ألح السؤال عليّ مراراً، وما لبثتُ أن سمعتُ حفيف أوراق شجرة، فأصخت لها السمع جيداً.

       وياللعجب، كأني بها تكلمني، فراعني ذلك!

      لكن الصوت هدَّأ من روعي وهمس في أذني: لا تُرَعْ واسمع قصتي….

       الفصل الثاني: قالت لي الشجرة!

      أنا شجرة حدباء، واحدة من مئات الأشجار في صحراء الحجاز. كسانا الله حلة دائمة من أوراقٍ شائكة، تبدو كمظلات منشورة، يتفيأ الناس ظلالنا ويسموننا (سَمُرات) و لِما رأوا من أغصاننا المحدودبة سمّوا المكان (الحديبية).

      تبعد الحديبية مرحلة واحدة عن مكة و تسع مراحل عن المدينة، يطرقها بعض الحجاج القادمين من الساحل، فإذا اجتازوها قليلاً دخلوا أرض الحرم.

      أما نحنا السَمُرات فمنا من نبتت وأمنت في أرض الحرم، و منا من هي مثلي، جانبها الحظ فنبتت في الحِل. سعادتي في أن يأوي إليَّ طير، أويستظل بي إنسان.

      كانت الحديبية  تغفو وادعة في غفلة من الزمان والمكان، حتى بزغ فجر يوم[2] أفاقت فيه على هدير بشري عظيم، قادم من جهة طريق مكة.

        جاء جمع غفير من الناس، يتشحون بالبياض يسوقون الهدي المقلدة، تقدموا ثم تفرقوا وحداناً وجماعات يبتغون الظل والسقيا، وشرع بعضهم بضرب خبائه كمن سيطيل المكث.

      ألم يعلموا أنها أرض شحيحة المياه، ماحلة الآبار! أم أنهم معتمرون غرباء ضلوا سبيل مكة؟ وهل يضل الجمع الغفير سبيله؟!

      حطوا بيننا كسرب حمائم بيضاء، فتهللتُ فرحاً بهم، ثم جاءني ثلاثة من الأعراب يستظلون بي، فبسطت لهم أغصاني ما استطعت، عسى أن يستطيل ظلي أكثر.

      قال أحدهم باستياء: لولا أننا انعطفنا إلى هنا لكنا الآن نطوف بالبيت.

      قال آخر: أحسبُ أن نذير حربٍ عَرَض لنا عند عُسفان، فقد شوهدت عصابة بقيادة أشجع رجال قريش.[3]

      صاح الأول: هل نجبنُ كأولئك الذين رضوا أن يبقوا مع الخوالف في المدينة [4]! فلنمض إلى البيت الحرام فمن صدنا عنه قاتلناه؟

      قال ثالث: أما رأيت أن ناقة النبيﷺ بركت في ثنية المرار[5] فقال ﷺ: حبسها حابس الفيل!

       ولقد سمعته يقسم: ” والذي نفسي بيده لا تسألني قريشاً خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها” [6].

      ومالبث الثلاثة أن قاموا يهشون هديهم يتطلبون له الكلأ والماء. وبقي ظلي خالياً فحزنت!

      انتصف النهار وأوقدت شمس الحديبية أوارها، فآوى الناس إلى السَمُرات، وأقبل نحوي ثلةٌ من الرجال، فما أن دنوا مني حتى شعرت كأنما نفحت من أحدهم نسمة رطيبة طيبة، فاهتززت طرباً.

      كان الرجل أوسطهم، ما رام أحدٌ شيئاً من الجمال والكمال إلا كان فيه، يحفُّ به مرافقوه يعظمونه ويوقرونه.

      جلس في ظلي وتحركت شفتاه بالتسبيح والتهليل، فاضطربت أغصاني، واخضرت أوراقي، وتضوع نَواري، وغشي المكان سكينة عجيبة، لا أعلم في الأرض مثلها، واعترتني نشوة عارمة، ورحت أسبح خالقي بتسبيحه.

      جاء يتفيأ ظلالي فصرت أتفيأ أنواره!

      وما لبث أن أقبل نحوه رجال يشتكون شح الماء ونضوب الآبار، فنثر كنانته وأعطى أحدهم سهماً، وأمره أن يغرزها في بئر، ثم دعا بإناء فتوضأ، وقام إلى البئر فجلس على شفيرها، فصبه فيها!

      وما هي إلا لحظات قليلة حتى ارتجت الحديبية بأصوات التكبير وخرت الجباه ساجدة حمداً لله.

        لقد نبع الماء في البئر الناضب عذباً زلالاً !

      جعلوا يستقون ويسقون، وكانوا ألفاً وأربعمائة رجل، معهم سبعين بدنة يسوقونها هدياً بالغ الكعبة.

      يا لسعدي! إنني أعظم شجرة في الأرض حظاً، لقد تفيأ ظلالي نبيّ، بل خير خلق الله أجمعين!

      وفي تلك الليلة أرسلت السماء ماءها مدراراً على الحديبية، فاستبشر الناس بعدما أصابهم من غمّ بإحصارهم عن مكة.

      وأصبح بعضهم يقول: مطرنا بنجم الفرقد، فلما بلغ النبيﷺ ذلك قال: بل مطرنا بفضل الله ورحمته [7]

      كان عليه السلام يجلس في ظلالي سحابة النهار، فإذا أراد الصلاة قام يمشي حتى يتجاوز الحد فيصلي في أرض الحرم[8]

      لم أعد أتمنى أن أنبت في الحرم، فقد حباني الله نسمة مباركة فكأنما الحديبية قطعة من الفردوس، وكأنني شجرة من الجنة!

      بدأ رجال من أهل مكة يفدون إلى النبي ﷺ، تبعثهم قريش الواحد إثر الآخر، أولهم حليفٌ ينصحه، وثانيهم مجادلٌ يخوفه وثالثهم رشيد يحذره العواقب.

      فأما  المبعوث الناصح فعاد ينصح قريشاً بترك النبي ﷺ وشأنه، وأما المجادل فعاد ييئسهم من ثنيه عن عزمه، وأما الرشيد فعاد يعظم من أمره. و رأى ثلاثتهم أن تخلّي قريش بينه وبين البيت الحرام، لكن قريشاً رفضت لئماً وعناداً، وخوفاً على هيبتها بين العرب.

      لم ييأس النبي ﷺ من المحاولة فبعث إليهم صهره وقال له: (أخبِرهم أننا لم نأت لقتال إنما جئنا عماراً)[9]

      وتأخر المبعوث! ثم شاع خبر في الحديبية وفشا حتى بلغ النبي ﷺ، فاربدَّ وجهه غضباً ثم نهض و قال: “لا نبرح حتى نناجز القوم”[10]، وأمر أحد الرجال أن ينادي في الناس: يا معر المسلمين رسول الله يدعوكم للبيعة!

      فصاح أحد الأعراب: ما الخطب؟

      فقال المنادي: لقد قُتل مبعوث رسول الله إلى مكة، فهلموا وبايعوا على أن لا تفروا من قتال.

      فصاح صحابي: بل نبايع رسول الله على الموت!

      وتعالت الأصوات: لبيك يا رسول الله!

      وتوافد المسلمون إلى النبي ﷺ تحت ظلالي، وأحدقوا به، يصافحهم فرداً فرداً، حتى كلَّت يده، فأسرع صاحبه إليه ليسندها[11]، وتلك هي (بيعة الرضوان).

      شعرت بانقباض وخوف، فقد سرت روح الحرب في أرض الحديبية وارتدى بعض الرجال دروعهم وتجهزو للقتال!

       لكن ذلك لم يطل ولله الحمد، فقد أتى الخبر بأن مبعوث النبي ﷺ حيّ في مكة، وأن خبر مقتله ما كان إلا إشاعة!

      الفصل الثالث: على مشارف الحديبية

      سار شابٌ بمفرده، مبتلاً نصف عار، يجرّ أغلالاً ثقيلة تنهك جسداً ألهبته السياط، وأجهده طول المسير، وبداخله نفس ملتاعة يتنازعها الألم والاشتياق.

       لقد غمر الحب شغاف قلبه كما غمر المطر جسده فهمس: (فداك أبي وأمي يا رسول الله)!

       حاول تذكر وجهه الشريف فلم يقدر، فقد كان الشاب صغيراً حين هاجر النبي ﷺ من مكة.

      وما كاد يشب عن الطوق، حتى حدثه أخوه الكبير عن الإسلام، فلامس فطرته السليمة، فأسلم مع فتية آخرين، آمنوا بربهم فزادهم هدى، وبطش بهم ذويهم فربط على قلوبهم.

      كان أبوه أشدهم بطشاً لأنه كان أعلاهم شأناً في مكة. لقد حفرت الأغلال في أطرافه أخاديد دامية، و تركت سياط أبيه في جسده جروحاً عميقة أنضجتها شمس مكة وأبردتها أمطار الحديبية.

      ازداد السير مشقة فقد استمسكت السلسلة بطين الصحراء،  فخرَّ على وجهه.

      سمع حوافر الخيل تقترب باتجاهه، فاستبشر ورفع رأسه، فرأى شبحين على جوادين ينهبان الأرض نحو الحديبية، ناداهما لكن المطر ابتلع صوته، وغشى الليل جسمه.

      نظر حيث اختفيا فتراءى له وجهٌ أسود سمحٌ يهش له، ويفترّ ثغره عن ابتسامة بيضاء. إنه ذلك العبد الحبشي المؤمن، الذي اشتراه أبوه فأصبح صديقه وصلته الوحيدة مع  العالم خارج سجنه.

      ألحت في رأسه مشاهد السجن البائس فسارع إلى طردها، واستحضر ابتسامة ذلك الفتى وهو يحدثه عن رجوع أخيه من الحبشة إلى المدينة، وشهوده بدراً و أُحداً، ثم اندحار الأحزاب على شفير الخندق. كم فاته من المشاهد العظيمة!

      كان لا يفتأ يسأله ليطمئن قلبه: وماذا فعل رسول الله؟!

      أرعد صوت أبيه في رأسه مع السماء: أيها الصابئ الملعون، أتترك دين أبيك وتتبع قول ذلك الشاعر بل الكاهن؟ فيجيبه: (وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرٖۚ قَلِيلٗا مَّا تُؤۡمِنُونَ، وَلَا بِقَوۡلِ كَاهِنٖۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُون،َ تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِين)

      فشعر بالسوط ينهال على ظهره، وسرت رعشة في أعضائه.

      عادت الابتسامة تضيء وجه الحبشي وهو يبشره: أبشر يا أخي! لقد جاء النبي ﷺ إلى مكة معتمراً، ومعه مئات المسلمين، وقد عسكروا عند الحديبية!

      هاهو اليوم الموعود، وسينعم برؤية وجهه الشريف ﷺ ، وسماع الوحي من فمه غضاً، ولن تفوته المشاهد معه بعد الآن.

      بثت أمنياته لنفسه روحاً حفزته على النهوض، وبدأ المطر يتوقف، والصبح يتنفس، وقوس المطر يتوج سماء الحديبية بألوانه السبعة.

      الفصل الرابع: الصلح

      تابعت الشجرة حديثها في أذني:

      أسفر الصباح عن فارسين قرشيين، أقبلا إلى حيث اتخذ النبي ﷺ مجلساَ في كنفي، فلما رأى النبي ﷺ وجه أحدهما قال: القوم يريدون الصلح

       لقد أرسلت قريش خطيبها المفوه ليتفاوض، تكلم الرجل مع النبي ﷺ فأطال الكلام، ثم اصطلحا على أن تضع الحرب أوزارها عشر سنوات، وأن يعود المسلمون للعمرة في العام المقبل، وأن يردوا كل مسلم يأتيهم من قريش، ولا يلزم قريشاً العكس.

      ولم يبق إلا الكتابة، دعا النبي ﷺ كاتبه فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله… فقاطعه المفاوض وقال: أما الرحمن فما أدري ما هي، ولو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: باسمك اللهم هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله. 

      فقال النبي ﷺ: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب كما قال.

      امتعض الصحابة وامتعضت مثلهم، فوالله ما في الكون شيء إلا ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. وتم الصلح.

      الفصل الخامس: الامتحان

      ارتقى الشاب إحدى التلال بشق الأنفس، فلاحت له أشجار الحديبية، فاغتبط وتهللت أساريره المنهكة.

      الحديبية… إنها أرض نجاته، وموضع لقائه بحبيبه عليه الصلاة والسلام.

      انتفض جسمه واندفع الدم في عروقه، فانطلق يرسف بقيود تصلصل خلفه، يغذ السير لا يسمع إلا خفقان قلبه وترجيع أنفاسه.

      لم يلتفت إلى أحد، وشق صوته هدأة المكان وهو يصيح: أين رسول الله؟ فداه أبي وأمي أروني أنظر إليه!

      اخترق الجموع حتى وصل حيث يجلس النبي ﷺ تحت ظلالي، فنادى: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله! واندفع يريد تقبيل يديه وقدميه.

      لكن جذبة هائلة طارت به إلى الخلف، ورمت بجسده المهزول بقسوة بعيداً عني!

      فلما نظر لوجه جاذبه امتقع لونه وجحظت عيناه وصاح: أبي!!

      يا لحظه العاثر! فقد اتفق أن وصل الحديبية مع وصول أبيه، خطيب قريش، الذي أبرم الصلح مع النبي ﷺ!

      انهال الرجل الضخم عليه بالضرب، تصفحت عيون الشاب الوجوه حوله وقال: يا معشر المسلمين، أتردونني إلى المشركين وقد جئت مسلماً! ألا ترون ما لقيت؟!

      اضطرمت قلوب الصحابة ناراً وهم لايملكون لعذابه دفعاً ولا صرفاً ، وقال بعضهم لبعض: كيف نرضى الدنيّة في ديننا ؟ ألسنا على الحق والقوة معنا، ألم نبايع على القتال؟

      انفلت الشاب من قبضة أبيه و اندفع نحوي وسقط على ركبتيه، فالتقت عيناه بعيني حبيبه المصطفى وتلألأت دموع حرَّى في محجريهما لا تغيض ولا تفيض، وحملق بشفتي النبي ﷺ منتظراً حكمه.

      وصاح أبوه بصوته الأجش: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه، ردّ ولدي إلى مكة!

      قال النبي ﷺ للشاب: “اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين مخرجاً.. وإنا لانغدر!”[12]

      حينئذ أرسل أول دمعة من تاريخ شقائه، وتوالت دموعه كعقد انفرط.

       و ما رام مكانه حتى هدأ قلبه واستسلم لقضاء ربه ثم انثنى راجعاً.

      أسرع إليه أبوه بسلسلة غليظة فسلكه بها، و عاد يجرّه ويجرّ معه آلام العالم، لقد كان فراقه للمصطفى ﷺ أشدّ وطأة على نفسه من عذابه المنتظر..فهو كالظامئ يصل الماء ثم يمُنعه.

      تمنيتُ حينها لو اضطرم خشبي ناراً تحرق عدو الله، وتكون برداً وسلاماً على نبيه ومن والاه.

      هدأ المكان من صوت الشاب وأبيه، و ساد الصمت إلا من أنفاس الصحابة تتردد كالمرجل، وحفيف أغصاني ترتعش بلا هواء، لقد كدت أنفلق كمداً.

      التفت النبيﷺ إلى الناس وقال: قوموا وتحللوا، انحروا واحلقوا!

      فصمتوا مطرقين، أعاد قوله ثلاثاً فما تحرك أحد !! فتركهم وعاد إلى خبائه.

      جثا بعضهم على ركبتيه، وضرب بعضهم جذوع الشجر بقبضته، ووقف آخرون شاخصين بأبصارهم لا ينطقون ولايطرفون!

      يا ويحي ؟ هل سيعصون نبيهم فيهلكون؟

      توقفت أوراقي عن الارتجاف، أترقّب، فقد كان الموقف عصيباً!

      وبينما هم كذلك إذ خرج النبي ﷺ واتجه إلى جمل ضخم، فنحره ثم نادى حالقه فحلق له، وهو صامت لا يتكلم ولا يحول نظره إلى صحابته.

       وعندها تحرك الصحابة، فنحروا هديهم وحلقوا رؤوسهم كارهين، يكاد يقتل أحدهم الآخر.

      إنه امتحان التسليم لحكمة الله!

      وحان أوان رحيلهم، وعرفتُ أنه الفراق الذي لا لقاء بعده!

      كنت لا أؤثر على لحظة أظلل فيها النبي ﷺ جميع مباهج الدنيا ومسرات الحياة، فصرت أئن أنين الوالهة الثكلى، ولكن هيهات أن يسمعني بشر!

      ويا لدهشتي!! دنا النبي ﷺ مني فمسح على جذعي فشعرت ببرد كفه الشريفة، فحلَّقت نفسي إلى حيث لا أعلم، و دارت بي أرض الحديبية ثم توقفت وهدأ كل شيء، إنها السكينة!

      الفصل السادس: مِسعَر الحرب

      مضت شهور عدة منذ أن غادر المسلمون الحديبية، وغادرت معهم سعادتي و بقيت وحشتي.

       وفي ظهيرة يوم قائظ، نزل عندي إنسان ووقف يصلي في ظلي، فأنست به كثيراً، ولما التفت عرفته، إنه ذلك الشاب المعذب! لقد سرى ماء العافية في وجهه، فسررت وحمدت ربي لصلاح شأنه.

      ومالبث أن جاء صاحب له، طويل القامة، قوي البنيان فجلس بجانبه.

       نظر الشاب إلى أغصاني بمودة، ثم جادت عيناه بدمعة وقال: لقد كان ﷺ يجلس هنا حين رأيته، قبل أن يردني مع أبي.

       بدا أنه يعالج في نفسه شوقاً ممضاً للنبي ﷺ كشوقي له أو يزيد.

      قال صاحبه: هون عليك يا أخي،  فقد ردني النبي ﷺ كذلك لما فررت إلى المدينة، وقال لي كما قال لك :”سيجعل الله لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً” وكان كما قال.

      الشاب: كيف ذلك؟

      أجاب: أرسلت قريش ورائي رجلين ليردَّاني و في طريق العودة إلى مكة نزلنا لنرتاح فقلت لأحدهما: أصارمٌ سيفك؟ قال: نعم قلتُ: هل أنظر إليه؟ قال: إن شئت.فاستللته فضربتُه به وقتلته، وفرّ الرجل الآخر فلحقت به.

      الشاب: إلى مكة؟

      صاحبه: بل إلى المدينة فقد التجأ إلى النبي ﷺ فزعاً يقول: لقد قتل صاحبكم صاحبي وإنه والله قاتلي!فأمَّنه النبي ﷺ.

      انفلتت من الشاب ضحكة، بثت في نفسي سروراً عظيماً، فمنذ عرفته ما رأيت ابتسامته فضلاً عن سماع ضحكته.

      تابع صاحبه: عدتُ إلى النبي ﷺ فقلت له: يا رسول الله قد وفى الله ذمتك، رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم.

      فصمت النبيﷺ، فعرفت أنه سيردني الثانية، فانطلقت حتى أتيت الساحل.

      ثم بلغني أن النبي ﷺ قال عني: “ويل أمه! مِسعَرَ حرب لو كان معه رجال”.[13]

      فقد أذن  للمسلمين بحرب قريش لمن لم يشهد الصلح معها.  

      الشاب: أتقصد أذن لمن أسلم من قريش؟

      صاحبه: أجل، لقد أتى إلى الساحل سبعون شاباً فارين بدينهم من مكة حتى الساعة وإنهم لفي ازدياد، وهم يهددون عير قريش وتجارتها.

      هب الشاب واقفاً وقال: فالحرب الحرب إذن، حتى تكف قريش عن بطشها بالمستضعفين، وتنقلب على شرطها الظالم الذي أبرمته تحت هذه الشجرة.

      الفصل السابع: الكتاب

      توالت الأيام، ولم يعد الشاب ولا صاحبه ولم يستظل بي أحد، فاستوحشت نفسي!

      وفي ساعة مالت فيها الشمس إلى مغربها أتى الشاب ومعه صاحبه يتكئ عليه، ووراءهم ثلة من الشبان، هل صاحبه مريض أم أصيب في قتال؟

      أضجع الشاب صاحبه برفق تحتي، وناوله قربة ماء، ثم دثره، ووقف يؤم الباقين في الصلاة. حدبت عليهم كما تحدب الأم على أولادها، وخشعت لسماع آيات الله.

      أهلت أضواء الفجر تتسابق من الأفق الشرقي نحو الحديبية، لتعلن ميلاد يوم جديد. كانت أنفاس المريض تتردد في صدره ثم تتقطع،  وبدا أنه ينزع نزعاً شديداً.

       رثى الشاب لصديقه، وجلس يواسيه ويرقيه و يمسح وجهه بالماء. وساد الصمت فلاصوت يهمس ولا عين تطرف.

      وبينما هم كذلك إذ جاءت خيول تعلوها الأنوار فلا أدري أهي أنوار الصباح أم أنوار المدينة.

      ويح نفسي! كأني أجد ريح الحبيب، ولا أزال في وجدي القديم!

      إنهم صحابة رسول الله ﷺ الكرام، جاءوا بكتاب من النبي ﷺ لقائد الشبان.

      أمسك الكتاب بيدين ترتجفان، ثم فضه برفق وقرأه، فتهلل وجهه بِشراً وقال: الحمد لله الذي جعل لنا فرجاً ومخرجاً، الآن أموت وقد طابت نفسي، ثم نطق بالشهادتين وانتفض انتفاضة فاضت فيها روحه.

      أقبل الشاب على صديقه باكياً فأغلق عينيه، واسترجع، ثم أمسك بالكتاب فقرأه، ثم خر ساجداً ينشج بنشيج الحزن والفرح.

      رفع رأسه وقال: رحمك الله يا أخي، لقد قاتلت حتى بلغت المأرب، وما وهنت عزيمتك، اللهم تقبله مع الشهداء!

      كتب النبي ﷺ إليهم للعودة إلى المدينة، فقد تخلت قريش عن شرطها، بل ناشدته أن يضم إليه كل من أسلم من مكة.

       رحماك ربي! سيفارقني صديقي الشاب بعد أن فارقنا صاحبه، لقد كنت أجد بوجهيهما العزاء في بعدي عن الحبيب، فمن لي بالعزاء إذا فقدتهما؟   وتلك قصتي!

      عاد الصحابة في العام التالي يبحثون عن الشجرة المباركة فتشابه الشجر عليهم ولم يجدوها، لقد أراد الله تعالى أن يجنبهم أكدار الشرك وتقديس المخلوقات.

       هي شجرة شهدت بيعة صدق، فخلدها القرآن وشرفها النبي ﷺ بقوله: “لا يدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة”[14].

      من الشميسي إلى مكة

      أيقظني بوق الحافلة، فقد وصل باقي الفوج، فتوضأت وصليت ركعتين في مسجد الشميسي،  وانطلقنا نحو مكة

      شيعت الحديبية بناظري وأنا أردد: لبيك اللهم لبيك! اللهم احشرني مع أصحاب الشجرة!

       

      خاتمة:

      شخصيات القصة حقيقية:

      • الشاب: هو الصحابي (أبو جندل)
      • أبوه:  الصحابي(سهيل بن عمرو) خطيب مكة، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه
      • صاحبه: الصحابي(أبو بصير) هو عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي
      • أخوه: الصحابي (عبد الله) بن سهيل بن عمرو
      • صهر النبيﷺ: عثمان بن عفان
      • مفاوضو قريش: الأول بديل بن ورقاء والثاني حليس بن علقمة والثالث عروة بن مسعود

      [1] الفتح 18

      [2] في شهر ذي القعدة من السنة 6 هـ

      [3] هو خالد بن الوليد قبل إسلامه

      [4] هم بعض الأعراب حول المدينة رفضوا الخروج للعمرة ونزل بهم قرآن.

      [5] بركت ناقة النبي القصواء عند ثنية المرار قرب الحديبية رافضة التقدم نحو مكة ، كما فعل الفيل من قبل.

      [6] البخاري ص2731

      [7] مسلم ص71

      [8] ا رواية ابن اسحق

       صهر النبي هوعثمان بن عفان، الحديث في سيرة ابن اسحق.

      [10] نناجز: نحارب

      [11] الصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

      [12] الترمذي 327

      [13] حديث في البخاري2731 مسعر حرب: أي مشعلها

      [14] سنن أبي داوود 4653