المجذوم
بقلم : مؤمنة الجوخي
الفصل الأول:
(على مشارف مكة)
نظر إليَّ صاحبي نظرة استغراب، فبعد مسيرة طويلة في صحراء مقفرة،كنت أنا وجوادي قويين لا يبدو علينا أثــر التعب،
أما هو فمرهق مكدود وكذلك كانت فرسه .
قلت بلهفة: أبشرْ يا صاحبي الأنصاري! فقد اقتربنا من مكة، ولله الحمد.
قال صاحبي: أنت من أهل مكة، وأدرى بشعابها.
نظرتُ باتجاه مكة نظرة اشتياق، لاحظني صاحبي فقال: أشوقاً إلى أخيك الأسير أم إلى حبيبك المفارق؟
قلت: بل الشوق لما هو أعظم منهما. فقال: وماهو؟
قلت: الشوق إلى الديار، فكيف لو كانت تلك الديار مهوى الأفئدة، والبلد الحرام.
لقد هاجرتُ قبل النبي ﷺ بشهرين، وبلغني أنه خاطب مكة فقال:
(لولَا أنَّ أهْلَكِ أَخرَجُونـِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)
أطرق صاحبي الأنصاري هنيهة ثم قال بحزن : ستظل مكة في قلب النبي ﷺ لا يعدلـها بلدٌ آخر، أليست موطنه؟
استدركتُ فقلت: لقد سمعت النبي ﷺ يدعو ربه ( اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلينَا الـمَدَينَةَ كَحُبِّنَا لـِمَكَّةَ أو أشَدّ ) فلا تخش َهجراً من النبيّ المختار يا أخا الأنصار.
ابتسم صاحبي الأنصاري راضياً.
بينما نحن كذلك إذ انشق الغبار عن رجل على بعير، يسوق غنماً له، فتلثَّمتُ كي لا يعرفني، وابتدرته بالسؤال عن اسم ذاك المكان، لأوحي إليه أننا غريبان.
أجاب الراعي: هذا “وادي القديد”…. وفيه خيمة أم معبد الخزاعية.
قلت مدعياً الجهل: ومن تكون؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المجذوم: المصاب بالجذام وهو مرض خطير يشوه المصاب به. ولم يعد موجوداً.
أجابني متعجباً : ألم تسمعا بها؟! هي من وصفتْ محمداً، الرجل الصابئ الذي فارق دين قومه، واتخذ يثرب حصناً له ولأتباعه.
أما وصلكما الخبر! لقد شاع في العرب كلها.
قال ذلك وسار خطوات ثم التفت وصاح: اسمعا! أمامكما “وادي عويجاء” إياكما أن تهبطاه! فيه رجل مجذوم تلبسته الجن، ما مرَّ به أحد إلا سلط عليه الشياطين فاستهوته أو خبلته أو قتلته.
ثم مضى الراعي.
قلت لصاحبي: آهٍ من أم معبد! لقد كادت تبدي برسول الله ﷺ وصاحبه. لقد فطن رجل في مكة اسمه سراقة بن مالك يعرف مسكنها في “وادي قديد” فأتاه، حتى أدرك النبي ﷺ وصاحبه لولا أن ساخت قوائم فرسه في الرمال، فصرفه الله عنهما.
قال صاحبي وقد تملكه الفضول: وما حكاية المجذوم المتلبس بالجن؟
قلت: ما هي إلا خرافات العرب وأوهامهم، قد أبطلها الإسلام ، فدعك من هذا.
غذينا السير حتى مالت الشمس إلى مغربها، وبلغ بنا التعب كلَّ مبلغ، فاستحسنَّا مكاناً للمبيت، و ربطنا الحصانين، ثم أصبنا من الزاد.
ولم يكد النوم يلمُّ بعيوننا حتى تناهى إلى مسامعنا أصواتٌ تقترب.
لقد كانت قافلة آتية من الشام بما تحمل من قمح وخمور وزيوت وأثواب وفاكهة.
همست لصاحبي : قم، فقد وصلت قافلة!
هبَّ صاحبي واقفاً وأمسك بزمام فرسه: ليتها تأخرت قليلاً لننعم ببعض النوم.
قلت : سنتفترق في مكة. تذكر أن تعطي السائس في مرابط الخيل مالاً يكفي علفاً لجوادي عدة أيام.
وسألته: أعرفتَ موضع مرابط الخيل في سوق الحَزوَرَة في مكة ؟
قال : اطمئن عرفتها. سأترك فرسي مع جوادك أيضاً لتحمل عليها أخاك بعد أن تفكّ أسره بعون الله.
شددتُ لثامي، وأحنيت هامتي لأبدو شيخاً كبيراً محدودب الظهر، حتى لايعرفني أحد، وانطلقت مع صاحبي نحو القافلة، والتحقنا بها زاعمين أننا تاجران من “تغلب” نقصد مكة للتزود بالبضاعة.
الفصل الثاني:
( اللقاء…)
هاهي ذي مكة أمُّ القرى، لم تعدْ حلماً يراودني في المنام، وها أنا ذا أتجول في أسواقها، أشتمُّ بُخورها من تحت اللثام، أسمع ُأصوات الناس تختلط بأصوات الإبل، يتكايلون ويتجادلون فأطربُ لها.
أشاهد وجوهًا أعرفها من قرابتي وصحبي فآنس بهم، وأدعو الله لهم سراً أن يشرح صدورهم للإسلام.
ما أحسن الديار وما أطيبها! وكأن روح المرء مبثوثةٌ في جسده وموطنه كليهما، فلا تسكن ُإلا باجتماعهما.
دخلتُ المسجد الحرام على هيئة الشيخ الحاج ، طفتُ حول البيت سبعاً مهللاً ملبياً، وكلما وقعت عيناي على أحد الأصنام المبثوثة حول الكعبة اشمأزت نفسي، وراح لساني يلهجُ بالدعاء أن يطهّر الله حرمه من الرجس.
أحسستُ روحًا جديدة تسري في جسدي، وأنا ألبّي رباً واحداً لاشريك له، وما عرفتُ الحج من قبلُ إلا مُكاءً وتصديةً *.
وقفتُ أصلي عند المقام الشريف، ولكنْ كيف لي أن أسجد فتعرفُ قريشُ بإسلامي؟
جلستُ خلف المقام متوسدًا عباءتي، منطويًا على نفسي، وقد اتخذتُ مظهر الشيخ الفاني، فصليتُ قاعًدا، فما انتبه إليَّ أحد.
كان أسياد مكة يرفعون أصواتهم غير آبهين، فلا قدسية لشيء أمام صلفهم واستكبارهم، فهم سدنةُ البيت وأهل رَفادته** ويدّعون ولايته، ويبتدعون في المناسك فيَضلون ويُضلون.
وتناهى إليّ من أحاديثم ما يشي بغيظٍ يتمايز في صدورهم مما حدث من هجرة النبي ومن آمن معه، وتمكينهم في المدينة. وسمعتُ من سفهائهم عن رسول الله ﷺ خير الخلق وأكرمهم ما أكرهُ ، فتركت مجلسي مرغماً.
خرجتُ إلى جبل أعرفه في مكة، فيه موضع تُرى منه الكعبة بجلاء، فصليتُ ما شاء الله أن أصلي، وأثنيتُ على الله بما هو أهلُه.
قضيتُ سحابة النهار في المكان، فلما أرخى الليل سدوله أصلحتُ من هيئتي، وشددتُ اللثام على وجهي، وانطلقتُ مستعيذاً بربي.
نزلتُ إلى بيت رفعت عليه راية حمراء، دليل أنه معقر للهو والمجون.
دسستُ في يد الرجل الواقف مالًا وفيرًا، ما امتد أمله يوماً إلى نصفه، وأمرته أن لا يُدخل أحداً.
*أي تصفيقا وتصفيرا * * السدانة والرفادة: أعمال خدمة الحجاج.
وفي البيت، خرجت امرأة من حجرتها تتهادى بثوب بلون الخمرة، وينعكس لونه على وجهها فيشوبه بحمرة الخجل زيفاً وبهتاناً.
نظرتْ إليّ بعينين نجلاوين حركت فيَّ لواعج دفينة، ولطالما أنشدتـُها في جمالهما ما تطربُ له أذنيها، فتستزيد من شعري ولا ترتوي.
أقبلتْ نحوي يفترُّ ثغرها عن ابتسامة زائفة، ظناً منها أنني رجل جاء يستقي كؤوس المجون ساعة، ثم يغدق على سيدها مالاً تنال منه ما تجود بها يده. وكان هذا ديدنها، فما هي إلا أمَة تبيع عرضها ويقبض سواها الثمن.
وبدلال مصطنع طلبتْ مني أن أرفع اللثام عن وجهي، وما كدتُ أرفعه حتى انفلتتْ منها شهقة عظيمة، وكادتْ تصرخ باسمي، ولكني كنت متهيئاً لهذا، فأغلقتُ فمها بقوة.
قلتُ: صه صه! إنه أنا يا أمامة!
فلمّا هدأ روعها اندفعتْ نحوي لتعتنقني، فارتددتُ مبتعدًا عنها، فتحيَّرتْ من صدّي لها.
قالت: ماذا دهاك أما تشتاق وصالي؟ أنسيتَ ما بيننا من حب؟
قلت: كلا! معاذ الله أن أعصي ربي، لقد اتبعتُ الإسلام الذي حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
قالتُ: ولِم صبأتَ وهجرتَ دين آبائك، لتتبع ديناً يحرم عليك وصال من تحب؟
قلت: لقد هداني الله للإسلام دينًا قِيَمًا، ملّةَ إبراهيم حنيفًا، وماكان من المشركين. هلمي يا أمامة فأسلمي لله، لتخرجي من الظلمات إلى النور.
قالت: فلنتزوج إذن.
قلت: لا يجوز لي أن أتزوجك حتى تسلمي.
قالت: أقطعتَ الفيافي وعرضت نفسك للهلكة من أجل هذا؟
الفارس: جئتُ كي أدعوكِ للإسلام، ولعلك تعينيني حتى أجد أخي الذي أسرتـْـــه قريش على طريق الهجرة؟
قالت: أمّا الأولى فلا حاجة لي بها، وأما الثانية فسأعينُك، بحقّ ما كان بيننا يوماً. أمهلني حتى مساء الغد لأستطلع لك الأمر.
خرجتُ من عندها كئيبًا لما وجدتُ منها إصراراً على الكفر، وقلتُ: عسى يشرح الله قلبها يوماً فتسلم.
أمضيتُ يومي التالي كسابقه في الجبال أتعبد، ثم نزلتُ للقاء أمامة، رجاء أنها عرفت شيئاً عن أخي.
أخبرتني أنَّه أسير لدى ابن عم لي. اغتممتُ لما كنتُ أعرف من غلظة ابن عمي ذاك، وبغضه لأهل الحق، وزادني ذلك عزمًا على فكِّ أسره، فتوكلتُ على الله وانطلقتُ إليه.
عندما انتصف الليل، تسوَّرتُ جداراً خلفياً في دار ابن عمي في حين غفلة من الحارس، وتسلَّلتُ إلى حيث أخي فرأيته.
أشرتُ إليه بالصمت، ثم أخرجتُ خنجراً وقطعتُ وثاقه.
انسللنا بخفّة نحو الجدار، لكنّ ساقي أخي ضعفتْ عن تسلقه فحملتُه، وما كدتُ أرفعهُ حتى دهَمنا ثلاثة رجال أشداء شاهرين سيوفهم!
دفعتُ عن نفسي وأخي بسيفي ما استطعتُ، فأصابني أحدهم في كتفي، وأخي لا يزال يناديني ويستحثني أن أتركهُ وأنجو بنفسي.
فلما استيأستُ من إنقاذه، حملتُ على الحراس بكل قوتي حتى أفسحتُ فرجةً بينهم، اندفعتُ منها الى الباب، تاركاً أخي،
ثم عدوتُ واختفيتُ بين البيوت تحت جنح الظلام.
كان الدم يسيل فشققتُ حزامي وشددتُه على جرحي.
بقيتُ قابعًا في مكان ضيق حتى الصباح، فلما انقطع عني الطلب، تسلَّلتُ إلى مربط الخيول حيث ترك لي صديقي الأنصاري جوادي، وامتطيتهُ مغادراً مكة.
انطلق الحصان تحت شمس الصحراء اللاهبة، فألقيتُ برأسي على عنقه، وأسلمتُ له القياد، وفقدتُ وعيي!
فتحتُ عينيّ وإذ أنا داخل خيمة، ثم ألـــــــمَّ بكتفي ألمٌ شديدٌ، فعلمتُ أن أحداً يضمدُ جرحي!
قال لي : لا تخف! أنت في أمان.
كان رجلاً عجوزاً خطت السنونُ في وجهه أخاديدَ عميقة. سألتُه عن المكان الذي نحن فيه، فأخبرني أنه “وادي عويجاء”!
أليس هذا هو الوادي الذي حذّرنا منه الراعي؟! أيعقلُ أن يكون الساحر المجذوم هنا؟
غلبني النوم، فرأيتُ مسخاً مشوّه الخِلقة يمسكُ بي، وينهش من كتفي، وأنا مستسلمٌ لا أملك لنفسي دفعاً ولا صرفاً.
استيقظتُ منزعجاً، فرأيتُ الشيخ جالساً بقربي يصنعُ طعاماً، ابتسم وقدَّمه لي قائلاً:
تفضّل يا أخا العرب، حللتَ أهلاً ووطِئتَ سهلاً.
ثم راح يحدثني ويؤانسني حتى اطمأننتُ له وأخبرتُه بخبري.
تذكرتُ الحُلم المزعج فقلت مستفسراً: يزعُمون أن مجذوماً يعيش في الجوار!
تغيَّر وجه الشيخ وقال: نعم! لقد هجر الناس المكان اتقاءَ شرّه، ولم يبقَ غيري. أعطيهِ الطعام فيسالمني ولا يؤذيني.
قلت: أباطيل الجاهلية، الحمد لله على نعمة الإسلام.
الشيخ: يبدو أنك صبأتَ مع محمد صاحب قريش؟
قلت: بل آمنتُ بالحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام.
الشيخ: وما فعل هو ومن آمن معه؟
حدثته عن هجرة النبي ﷺ المباركة وصاحبه” أبي بكر” الصديق، وعن هجرة “عُمر” جهراً متحدياً القوم، وهجرة “صهيب الرومي” الذي انخلع من كل ما يملك، و”أبي سَلَمة” الذي مُنِع عنه زوجه وولده، وغيرهم من الصحابة الذين باعوا دنياهم ليرضوا خالقهم سبحانه وتعالى.
مكثتُ هناك أياماً أحدث مضيفي عن الإسلام، وأتلو عليه القرآن.
وفي فجر ليلة مدلهمّة، نهضتُ فتوضأتُ ثم وقفتُ أصلي، أجهرُ في تلاوتي.
لمحت شبحاً يتحرك وراء الخيمة يظهر ثم يختفي! فتوجستُ خيفة!
قضىيتُ صلاتي ثم نظرتُ خارجاً من طرْفٍ خفيّ. فإذا بإنسان يلتفُّ ببردة سوداء تكبره بمرات، ويعتمرُ عمامة تخفي وجهه كله.
كان يتحرك بسرعة عجيبة!! رأيته يلتقط شيئًا من الأرض. مشى زمناً حتى وصل إلى بئر معطلة، جفّ ماؤها، وامتلأت بالرمال والأحجار ، فألقى الشيء ثم اختفى.
قلت في نفسي:كيف يكون مجذوماً سقيماً ثم يتحركُ بتلك الخفّة؟ أتراهُ ألقى في البئر سحراً ؟
انقبض صدري فنفثتُ بالمعوذتين، ثم عزمتُ على الرحيل، فامتطيت جوادي وانطلقت.
الفصل الثالث:
(التميمة)
كنت جالساً في مسجد النبي ﷺ و قد خلا إلا من بعض أهل الصُفّة الفقراء يفترشون الأرض.
سجدتُ طويلاً حتى ليظنني الناظر قُبضتُ. سلَّمتُ فوجدتُ صاحبي بجواري ينظر إليَّ نظرة المشفق.
سلمَّ ثم قال: كيف حالك؟
أجبت: حالي حال العاجز الفاقد.عجزتُ عن إطلاق أخي وفقدتُ من أحب.
قال : توكل على الله يا أخي.
قلت: نِعم الوكيل!
قال: هل تجهّزتَ للغزو كما أمر النبي ﷺ ؟
قلت: فعلت والله، فلا أحبَّ إليَّ من الجهاد مع رسول الله ﷺ.
أطرقتُ ثم قلت: أخشى على أخي في أيديهم، أتراهُ يُقتل مكبلاً وهو الشجاع المقدام؟
صاحبي: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
وبينما نحن كذلك إذ دخل المسجد رجل يهرول، يطفح وجهه بِشراً وقال:
البشرى البشرى! لقد جاء أخوك من مكة، إنه في الخارج.
انتصبتُ واقفاً، وهرعتُ يتبعني صاحبي، فرأيت أخي! كان هزيلاً مجهداً من السفر الطويل.
احتضنتُه، وأجلستُه ورحتُ أحمد الله وأثني عليه.
وبعد حين سألته: كيف نجوت يا أخي؟!
قال: جاءني ليلاً شخصٌ ملثم، فقطع وثاقي، وأعطاني سيفاً وعباءة وأشياء أخرى، ثم اختفى في الظلام.
التحفتُ بالعباءة، وتسللتُ قبيل الفجر إلى حظيرة بيتٍ خاوٍ هاجر أهله إلى المدينة.
وعلى حين غفلة من الناس، سلكتُ أسفل مكة، نحو الساحل، ثم قيَّض الله لي من حملني إلى “ثنية المرّة”، ثم إلى المدينة، فالحمد لله.
قلت: ومن هذا الذي تجشَّم الخطر لأجلك؟
قال: لا أدري، ولكن قلبي يحدثني أنها امرأة.
قال صاحبي: امرأة ! لعلها أمامة!
أطرقت ُمفكراً ثم قلت: بل هي أمامة! لابد أنها عرفتْ بما جرى لي، فحررتك استرضاء لي وبرهانًا على حبّها.
أو لعلها قبلت الحق وتركت دين آبائها.
قال أخي: اللهم اشرح صدرها للإسلام. قلتُ: آمين.
ومرت الأعوام، والمسلمون ينتقلون من نصر إلى نصر، ثم عقد صلح الحديبية، وصار الإسلام إلى اتساع، والشرك إلى انحسار، إلى أن نقضت قريش الصلح، فأُذن للنبي ﷺ بفتح مكة.
دخل المسلمون مكة من جهاتها الأربع مكبرين ملبين، ثم دخلها النبي ﷺ من أعلاها عزيزاً مظفراً، فطاف بالبيت سبعاً بتواضع عظيم.
وعده ربه عندما أخرجوه:( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) وهاقد أنجز الله وعده وردَّه إلى بلده، حيث مرابع طفولته، ومهبط الوحي إليه، وأولى معالم جهاده.
كنت أمشي بين الجموع أطوف جنبات مكة وهي ترتج بالتكبير، أريد أن أعانق كل شبر فيها، وأقبّل كل حصاة.
و بعد أيام، تاقت نفسي لمعرفة ما حلَّ بأمامة، ولأشكرها على صنيعها مع أخي.
فقيل لي: إن ابن عمي قد اشتراها.
وقع في نفسي أن ابن عمي قبض على أمامة يوم أطلقت أخي من الأسر.
ولم يكن الأمر كما ظننت، فقد أعتق ابنُ عمي أمامةَ وتزوجها، وولدت له.
استأذنتُ لمقابلتها، فأقبلتْ وقد نالت السنون من جمالها، وبدا على قسماتها فعلُ الدهر، قالت:
لماذا أتيتَ اليوم؟ أشامتٌ بظهور دينك أم منتقم ٌ؟
قلت في نفسي: منتقم! لماذا؟!
قلت لها: أتيتُ لتخبريني بالحقيقة.
قالت: يوم جئتني أوغرتَ صدري بصدودك عني، فوشيتُ بك لابن عمك، فترقبك حراسه ليمسكوا بك في سجن أخيك، لكنك نجوت.
صرختُ: وشيتي بي!! ولماذا أعنتِ أخي على الفرار إذن؟
أمامة: لا.. لم أفعل هذا! كنا نظن أنك من أطلقه في غفلة منا!
أصابتني الحيرة فسكتُ.
قالت بتردد: وما أنتم فاعلون بنا اليوم؟
قلت: لا شيء، لقد قال النبي ﷺ:اذهبوا فأنتم الطلقاء.
قلتُ هذا ثم خرجتُ إلى بيت أخي في مكة.
أخبرته بما قالت أمامة ثم سألته: ألم تقل أن من أعانك على الفرار امرأة؟
أجاب: بلى!
قلت: فمن تكون إذن؟ لعلها جارية في قريش تخفي إسلامها؟
قال: لا أظنها مسلمة، فقد أعطتني حجرًا كبيضة الحمام، من التمائم التي يحسبها المشركون تمنع سيء المقادير.
قلت: وأين تلك التميمة؟
قال: كيف أحتفظ بها وقد نجاني الله من الشرك!
لم يسعني إلا أن أكفّ عن السؤال.
الفصل الرابع:
(المفاجأة!)
انشغلتُ وأخي وصاحبي مع المسلمين، فقد أمر النبي ﷺ بتطهير مكة من الشرك، والجهاد بالدعوة الى الله.
ثم عرض لي ما جعلني أسافر إلى المدينة المنورة.
سلكتُ طريق الهجرة، ومرّرتُ بــ”وادي القديد”، فتذكرتُ ذلك الشيخ الذي أنقذني من الموت، وخطر لي أن أزوره لأنظر ما جدَّ من شأنه، راجيًا أن يكون قد أسلم.
دخلتُ خيمة الشيخ فلم أجده، فجلستُ أنتظر عودته.
شعرت بظلٍ -كما في الماضي- يتحرك وراء الخيمة! رفعتُ صوتي بالسلام، ولكنه هرب.
اعتزمتُ أن أكشف سرَّه و أبطل شرَّه، فتبعته حتى البئر المهجورة.
كان ضئيل الجسم، متخفياً بعباءة سابغة، وقفتُ قبالته بهامتي الممدودة، فجثا أرضاً.
صحتُ: من أنت أيها الملثم؟ أعرفُ أنك لست مجذوماً سقيماً فلماذا توهم الناس بهذا؟ أتريد أن تسترهبهم ليخشوك؟
انطوى الملثم على نفسه، فكررتُ السؤال بلهجة أشد، فلم يزدد إلا صمتاً.
وبغتة! نهض محاولاً الفرار، فأمسكتُ به وكشفتُ اللثام عن وجهه!!
فصرختُ مذهولاً: امرأة!!
كانت فتاة رائعة الجمال، لم تقع عيني على مثل حسنها.
ركضت عائدة إلى الخيمة، كان الشيخُ واقفاً، فدعاني إليه.
قلت : أهذه ابنتك؟
قال: ليس لي ولد، إنها ابنة أختي.
كانت أمها تلدُ البنات، فعيَّر القوم أباها، فأقسم باللات ليئدنَّ كل أنثى تولد له.
ولدت أختي جارية و كان زوجها مسافراً، فأخفيتُ المولودة عندي، فلما عاد أخبرتْـــه أنها ولدتها ميتة.
رحلتُ بها إلى صديق لي من خزاعة، فأرضعَتْها زوجه.
فلما اشتد عودها أخذتـُها واعتزلتُ بها الناس، وصرت أرعاها، وعلّمتها المبارزة والفروسية.
قالت الفتاة بصوت خفيض: ولكي لا يكون مصيري الرق ابتدعنا قصة المجذوم، وعشنا بسلام.
وأردفتْ: ثم جئتنا جريحاً فآويناك، وحدثتنا عن الإسلام، وصرتُ أرقبك تصلي وتتلو القرآن، فشرح الله صدورنا فأسلمنا.
وامتناناً لفضلك -بعد الله- في هدايتي، اعتزمت فكّ أخيك من الأسر، وطمعاً في ثوابه تعالى.
تسللتُ إلى مكة متخفية، سألتُ عن منزل ابن عمك، ثم ادَّعيت أنني امرأة تقطعت بي السبل، فأجارني عنده.
وعلى حين غفلة من أهل البيت، فككت الأسير، وأعطيته ما يحتاج. فلما قاموا يبحثون، تظاهرت بالجهالة، فصدقوني.
ثم عدتُ أدراجي سالمة بفضل الله.
سألتها: ولماذا أعطيته حجراً؟
قالت: كنت أصدّقُ -جهلاً- أنَّ صنفاً من الحجارة إن أُلقيتْ شهراً في بئر مهجورة، انقلبت تمائم تحفظ حاملها!
كنت قريبة عهد بكفر، و بعيدة عن العلم، فاعذر جهلي!
تزوج الفارس من الفتاة وعاشا في مكة.
أما الشيخ فقد لبث معهما زمناً، ثم عاد إلى قومه يدعوهم للإسلام.
استجاب الله دعاء الشيخ فدفن حيث وصى، في تراب وطنه.