
لكم الجنة
رواية بقلم: مؤمنة الجوخي
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول: الحجر المفقود
الزمان: أوائل التسعينات
المكان: أحد مساجد مكة
جلس المعلم في المسجد وحوله فتية كأنهم نجوم تدور في فلك العلم.
غياث يكتب ما يسمع في قلبه، وعبد الله تشع النباهة من عينيه، ويستبشر وجه عثمان الأسمر كلما تعلم شيئاً جديداً.
أما خلدون فحاضرٌ في المجلس بجسده، غائبٌ عنه بذهنه؛ فقد نشأ في إحدى أكثر أسر مكة ثراء، وأجلسه أبوه بين الطلاب راجياً أن يصير واحدًا منهم.
قال المعلم: ظلّ النبي ﷺ في مكة يدعو قومه فلا يلقى منهم إلا التكذيب والأذى، فمضى إلى الحجيج الوافدين إلى مكة، يلتمس فيهم من ينصره كي يبلغ دعوة ربه، وظل كذلك لسنوات بلا جدوى.
ثم أذن الله بالفرج، ففي السنة الثانية عشرة من البعثة، اجتمع النبي ﷺ باثني عشر حاجاً من خزرج يثرب، فدعاهم للتوحيد ومكارم الأخلاق، فاستجابوا له وبايعوه بيعتهم الأولى، وعادوا يدعون قومهم.
كان ذلك سراً، في شعب العقبة، وقت السحر.
تساءل عبد الله: وهل بايعوه بيعة ثانية؟
فأجاب المعلم: نعم، يا بُنيّ، ففي العام التالي في ذات الموضع والساعة، بايعوه بيعة العقبة الكبرى، بيعة النصرة والطاعة، أعظم بيعة في تاريخ الإسلام، وكانوا حوالي سبعين رجلاً ومعهم امرأتان. و حينها شرّفهم النبي ﷺ بأن سمَّاهم الأنصار.
قال عثمان متحسرًا: ليتنا كنا معهم نبايع رسول الله ﷺ!
ابتسم المعلم ابتسامة الرضا.
سأل عبد الله: وأين موضع البيعة اليوم؟
أجاب: ما زال خفيًّا عن الأعين، ولقد شُيّد في الموضع مسجد صغير بعد مائة وأربعين عاماً، لن يجده اليوم إلا من قصده بقلبه.
نهض المعلم فجأة وفتح خزانته، وأخرج كتابًا قلب صفحاته الصفراء وقال:
اسمعوا يا أبنائي ما قاله المؤرخ المكي أبي الطيب الفاسي عن هذا المسجد، قبل نحو ستمائة عام:
“وهذا المسجد بقرب العقبة التي هي حد منى من جهة مكة، في سفح جبل ثَبِير، في شعب العقبة، على يسار الداخل إلى منى، وعليه حجران؛ نقش على أحدهما أن أول من بناه هو أبو جعفر المنصور العباسي، والحجر الثاني يوثق بناءه سنة أربع وأربعين ومائة. وهناك حجر ثالث، ملقى لا نعلم أين بقي..”
قاطعه غياث، وقد استبدّ به الفضول: وهل عُثر على الحجر الثالث بعد ذلك يا معلمي؟
قال المعلم: لا أدري، يا بنيّ، ثم عاد يتابع القراءة:
” وقد كان للمسجد رواقان، كلّ منهما مسقوف بثلاث قباب، وخلفهما رحبة، وله بابان من الجهة الشامية، وبابان من الجهة اليمانية…..
لم يلتفت الفتية لبقية الحديث، إذ تلاقت نظراتهم، فعزموا على أمر دون أن تنطق شفاههم بكلمة.
الفصل الثاني: مسجد البيعة
يبعد مسجد البيعة عن المسجد الحرام قرابة الخمسة كيلومترات، خارج مشعر منى، بجوار جمرة العقبة، يقبع متخفياً عن الأنظار في شِعب يُعرف بشعب الأنصار.
وصل الفتيان الثلاثة إلى المسجد وقت السَّحَر، بعد عناء وبحث طويل، يصحبهم خلدون، لا بدافع الشغف، بل لأن سائقه الخاص كان من أقلّهم في هذا الوقت المتأخر من الليل، وفضل البقاء في السيارة.
كان المكان خالياً من الحجاج، فقد كانوا منشغلين، يرمون الجمرة الثانية في مكان غير بعيد.
كان مسجداً صغيراً منسياً، يتماهى بلونه الأغبر مع الرمال حوله فلا يكاد يرى.
داروا حوله يستضيئون بنور البدر، فلاحظوا على جداره الغربي بقايا اللوحين الحجريين اللذين ذكرهما المعلم، منقوش على أحدهما: ” أمر أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور ببنيان هذا المسجد مسجد البيعة و كانت أول بيعة بايع فيها الأنصاربعقد عقده العباس بن عبد المطلب” وعلى اللوح الثاني ثُبت تاريخ بنائه في سنة 144هـ.
ولم يكن للنقش الثالث أثر!
كان للمسجد باب واحد منخفض، يقع في الجدار الشمالي، وليس أربعة أبواب كما أرخ الفاسي!
دخلوا إلى رواقٍ محصورٍ بين جدارين، يتسع لثلاثة صفوف من المصلين. كان السقف آيلاً للسقوط، تعلوه قبابٌ متآكلة تشكو قسوة الزمن.
أما الجداران، فالأول فُتحت فيه خمسة أقواس تطلّ على صحن المسجد المستطيل.
و الثاني جدار القبلة وفيه محرابٌ رئيسيّ كبير، وعن يمينه ويساره محرابان صغيران، تجمع المحاريب الثلاثة قوسٌ حجرية بارزة، وإلى جانبهما محرابان متوسطان، قد خُرقت في كلٍّ منهما فتحة.
هبت نسمات السحر تحمل معها رائحة الجبال، وتلألأ البدر، فتملكت الفتيان رهبة، وتذكروا حديث المعلم، فكأنهم شعروا بالأنصار يتسللون خلسة، يتهامسون مع النبي ﷺ؛ ويسأله أحدهم: وماذا لنا إن بايعناك ونصرناك؟ فيجيب بتلك الكلمة التي يهفو إليها قلب كل مؤمن:
” لكم الجنة!”
عم الفتيان سكون مطبق، حتى قطعه عبد الله فجأة قائلاً: اسمعوني يا رفاق! فلنبايع رسول الله ﷺ هنا ببيعة الأنصار!
قال عثمان: نبايعه نحن؟!
أجاب: نعم! كما سمَّاهم أنصاره وسمَّانا إخوانه؛ آمنا به ولم نره، وقلوبنا تشتاق إليه، كما يشتاق إلينا.
وسقطت دمعة من عينه، فتتابعت دموع رفاقه دفاقة، وقالوا بلا تردد: بايعناك يا رسول الله!
وعاد الصمت يلف المسجد إلا من نشيجهم الخافت.
قال عبد الله بيقين: سنعود إلى هذا المسجد إن شاء الله بعد أن نصير رجالاً، لنُجدّد فيه البيعة.
قال غياث: أتظن أننا سنعرف بعضنا يومئذ!
فأجابه عثمان: لا تخف يا غياث، الملامح تتغير لكن الأرواح لا تتغير.
كان خلدون يختلس النظر إليهم من طرف خفي، ثم أسرع ليسبقهم إلى السيارة وهو يمسح دمعة فرت من مقلته.
الفصل الثالث: الولي
مع مغيب الشمس القائظة في إحدى قرى إفريقيا، نزل رجل طويل مهيب، من مركبة فارهة، نحو بوابة كبيرة، واستأذن الحارس في لقاء الشيخ صاحب المنزل، فردَّه الحارس قائلاً: إن الشيخ يغلق بابه بعد الغروب.
تجاهل الرجل الحارس وصاح بأعلى صوته: يا مولاي الشيخ الأمر مستعجل!
أطل الشيخ من نافذته، فقال الرجل: سيدي، جئتك من عند كبير تجار المواشي في الجنوب.
لقد نزل به داء أعجز الأطباء، وأرسلني إليكم، فما له بعد الله سواكم، وحاله لا يحتمل التأخير.
ركب الشيخ مع الرجل، فانطلقت السيارة حيث كانت أشجار المانغو العملاقة تمتد على جانبي طريق القرية، وما لبث السائق أن انحرف إلى دروب ضيقة تتوغل بين الأشجار المتعانقة، وأغصانها المتشابكة تتعلق بالسيارة تريد إعاقتها.
انقضت ساعة كاملة، والسائق واجم عابس، لا يتكلم ولا يجيب، حتى تسلل الخوف إلى قلب الشيخ، فانكفأ على نفسه، يتمتم أذكار التحصين، لا يدري أين يمضي به صاحبه هذا!
توقفا في مكانٍ مظلم، قد حجبت الأشجار الكثيفة نور الشمس عنه في وضح النهار.
دخلا غرفة معتمة، بالكاد يتسلل النور إليها، فأشار الرجل إلى حيث الزاد والماء، ثم استدار مغادراً تاركاً الشيخ وحده!
ناداه الشيخ متوسلاً، لكن دون جدوى فقد مضى دون أن يلتفت.
هبط الليل، ففاحت رائحة العفونة في الأرجاء، وترددت أصوات مبهمة في الأدغال المظلمة، تتداخل مع حفيف الأشجار وأنين الرياح، فتزايدت وحشة الشيخ.
قام فأشعل شمعة وجدها، وجلس على سرير متهالك فوق ملاءةٍ قذرة، يتلو مما تبقى في ذاكرته من الآيات، فكان هذا مؤنسه الوحيد في وحشته.
قبل هذه الحادثة، كان الشيخ يستيقظ مع الفجرعلى جلبة أصوات البسطاء من أهل القرية، يتحدثون بما أهمَّهم وأثقل كاهلهم. فهذا يشكو قلة ذات اليد، وذاك يطلب الشفاء لمريض، وتلك تطمع في تزويج ابنتها.
وتختلط أصوات البشر بثغاء الخراف، وخوار الأبقار، التي ساقوها مع ما ساقوا من آمالهم، إلى باب من ظنوه باباً للسماء، إلى وليٍّ لله صالح، إذا دعا استُجيب له، وإذا أشار أبرقت السماء، وإذا مسح شُفيت الآلام.
قيل لهم ـ وقد آمنوا بقول القائل ـ إن الله قد منّ عليهم بمنة عظيمة، إذ أعاد إليهم ابن قريتهم شيخًا جليلًا، بعد أن نهل من منبع الدين في أطهر بقاع الأرض.
ومهما اشتدت شمس إفريقيا التي لا ترحم، يبقى الناس ينتظرون بصبرٍ منقطع النظير، حتى يفرغ الشيخ من خلوته وصلاته، فيفتح بابه فيتزاحم الناس للدخول.
كان يستمع إلى أحدهم وهو صامت، فلا يسأله ولا يجيبه، فإذا أنهى كلامه، أعطاه حجابًا، أو رقاه بتمتماتٍ، أو ناوله شرابًا.
ويؤكد معاونوه أنه لم يقبل يومًا هدية لقاء نصحه، ومع هذا، فقد كانت دار الشيخ تتوسع، ومركبته تتجدد، وحظيرته تزخر. إنها كرامات الأولياء!
وفي صباح اليوم التالي، وعلى غير المعتاد، خلا باب الشيخ من أصحاب الحاجات، وقيل: خرج ولم يعد!
لبث الشيخ في البيت المهجور يومًا آخر، لم تطأ قدمه عتبته، فوراءها غابة مخيفة، لا يدري ما الذي تخفيه له من غوائل.
ومع انحدار الشمس إلى مغربها، تناهى إلى مسامعه هدير سيارة تقترب، وإذا بالرجل ذاته يقف أمامه، فأشار إليه بالصعود، فامتثل الشيخ صامتًا.
أنزله عند مشارف القرية، ودسّ في جيبه ورقة، ثم انطلق كما جاء تحت جنح العتمة، تاركًا إياه يتساءل:هل أفاق للتو من كابوس؟
ظلّ هنيهة لا يبرح مكانه، ثم مضى إلى بيته.
انشغل الشيخ بالناس المتهللين والمتسائلين فنسي الورقة، فلما تذكرها فتحها وقرأ:
(يا ولي الله العارف به، إن عجزت عن إنقاذ نفسك فأنت عن إنقاذ غيرك أعجز؛ فاتق الله، وتذكر عهدك في مسجد البيعة!)
بكى الشيخ حتى اخضلت لحيته، وسجد لله تائبًا منيبًا، ثم رفع رأسه فتلألأت جبهته بنورغير معتاد.
ولكن الأسئلة ظلت تلح عليه، من هو ذاك الغريب؟ وكيف علم ببيعته؟
وفي تلك الليلة، رأى فيما يرى النائم أنه يُمسك بحصى صغيرة فيقذفها ويقذفها، بلا نهاية…
الفصل الرابع: غريب في الوطن
في حضرة السكون، جلس غياث في محراب مسجد البيعة صامتًا، إلا من دعاء يعلو في سره ويهبط.
لم يكن هناك أحد، فالفجر قد أزف، والمكان لا يطرقه الحجيج المنشغلون بمناسكهم.
وفي هدأة ذلك الركن، تفتحت ذاكرة القلب، فتداعت إليه صورة البيعة التي عقدها مع رفاقه في هذا المكان يوم كانوا فتيةً أغراراً، ظنوا أن العالم كله صافٍ كصفاء قلوبهم.
كم يشتاق إلى تلك القلوب النقية!
كان قد افترق عنهم بعد الثانوية، فزجّت به الدنيا إلى أرض يرى نفسه فيها غريبًا، وإن سموها وطنه، وكم من غريب في وطنه!
لقد وُلِد في المملكة وأراد أن يبقى فيها، ولكنه لا يملك من أمره شيئًا؛ فرضخ لرغبة والديه وإصرار أخته التي رأت في الوطن ربيعًا تعشقه، وقرابة تأنس بها.
درس علم النفس، لا لأنه أراده، بل لأن درجاته أسلمته إليه. ثم لم يجد لنفسه عملاً، وهل يأبه للنفس أحد؟!
سافر إلى ريف العاصمة، فعمل في أحد المعامل، وسكن بمفرده، وكان لسانه ينطق بلهجة هجينة، فأنكره الناس كما يُنكر أحدهم وجهه في المرآة إن تغيّر.
أسند ظهره إلى محراب مسجد البيعة وأغمض عينيه، فتلاحقت صور الماضي وكأنها تعرض عليه مأساة عمره.
رأى الناس يركضون، والرصاص يتطاير من ورائهم، وصيحات النساء من الشرفات تصعد إلى السماء.
ثم رأى نفسه، يحمل حقيبة حشاها بكل ما تبقى من معلبات وأمل، وعاد شمالًا إلى حيث أبيه وأمه وأخته.
خرج في الهدنة، بعد الحصار والتجويع، بعد أن صار الهواء يُشترى. حذّره العجوز، وقال له: “لا تذهب شمالًا، فإن البلاد لا تشبه البلاد”
لكنه عاد، لم يكن في قلبه إلا أهله، فهل يترك قلبه؟!
دخل بلدة لا يعرفها ولا تعرفه. عيون مرتعدة، ووجوه غائرة، وكفوف صغيرة تستجدي رمق الحياة، فدفع إليهم الماء و الحقيبة.
انحنى ليفتح غلاف الحلوى للطفلة الصغيرة، فدوَّى صوت هائل لا يشبه الأصوات، ثم لم يشعر بشيء!
سمع في نومه مراراً صوتاً يكرر: “فلا اقتحم العقبة وما أدراك مالعقبة“
فتح عينيه فرأى الأشلاء، ورأى يدًا صغيرة مقطوعة، لا تزال ممسكة بالحلوى، أرادت أن تذوق لذة الحياة ففقدت الحياة !
وفي ما يشبه المشفى فتح عينيه ثانية، فرأى أشباحًا أنكرها، أغلقها وفتحها الثالثة، فإذا هي أبوه وأمه وأخته، وقد تغيرت سحناتهم. أغمضها مرارًا، وفي كل مرة يفتحها تنكشف له حقيقة مؤلمة، إلى أن فتحها على أشدها إيلاماً.
استعان بجدار مسجد البيعة القديم ليساعده على الوقوف، كانت عرجته واضحة، لكن ما من أحد سيشك أن ساقه اصطناعية فقد أسدل فوقها دشداشه الأبيض الطويل.
هنا، في البلد الحرام قد تغيّر كل شيء؛ فالخيام تحوّلت بنياناً مشيَّداً، والجمرات صارت طوابقاً، وجسرٌ عظيم امتدّ بينها، لكنهم حادوا بالجسرعن مساره عامدين، كي لا يقتحم مسجد البيعة الصغير.
و أما هذا المسجد الخجول، فقد ظهر للعيان، وأُحيط بالبلاط والسياج، ونصبت أمامه لوحة إرشادية تُعرِّف باسمه وتاريخه.
ثم أبصر النقشين القديمين مؤطرين تحت زجاج، ودار حول المسجد وإذ به يرى نقشاً ثالثاً… سبحان الله! إنه هو، النقش المفقود!
أسرع نحوه وقرأ: “أمر بعمارته مولانا المفترض الطاعة المستنصر بالله، أعز الله أنصاره وضاعف أقداره، في سنة خمس وعشرين وستمئة“
كان يتأمل النقش ويفكر: كيف عثرعليه ياترى؟
أحس بيدٍ تنزل على كتفه في رفق فالتفت، وإذا بوجه أسمر وضّاء، تحيطه لحية شهباء، وقد انفرج عن ابتسامة بيضاء.
فصاح غياث بصوت قطع سكون المكان: عثمان؟!
عانقه كما تعانق الأرض العطشى الغيث، وما لبثا إلا قليلًا، حتى أقبل رجل آخر، طوال أزهر، في عينيه براءة الطفولة، وفي قسماته نضج الرجولة.
شاهداه فعرفاه وعرفهما إنه عبد الله، فتجدد العناق، ولم يكن بين أجساد، بل بين أرواح.
قال عثمان: ألم أقل لكما يوماً إن الأرواح لا تتغير!
جلسوا يختصرون السنين الطوال في كلمات مقتضبة، يسترجعون ما مرّ بهم من أحداث، ويتساءلون عن بيعتهم التي عقدوها في نفس المكان.
قال عثمان بأسى: لقد غرّني الشيطان بما حصَّلتُ من علم شرعي، فزين لي الولاية. اللهم اغفر لي نكثي لبيعتي.
قال غياث: عشت مع اليتامى ومبتوري الأطراف في المخيمات، فصار مفتاح سعادتي في أيديهم الصغيرة. لكنني لم أستجب لتوسل والديّ المسنين في الرجوع إلى المملكة، اللهم اغفر لي هجراني لهما.
تنهد عبد الله وقال: أما أنا، فقد ذكّرني بعهدي من كان حريًّا بي أن أذكّره.
اجلسوا أحدثكم…
الفصل الخامس: بيعة وبيعة
قال عبد الله: رأى أبي في تفوقي في الثانوية ما يدلّ على النجابة والفهم، فأرسلني إلى جامعة في بلاد الغرب.
وعجبت أن الفتيان والفتيات يجلسون معًا، لا حدَّ بينهم، ولا حياءَ.
كانت بيننا فتاةٌ سمراء من أمريكا الجنوبية، لا تعرف في لباسها احتشامًا، تتحدث مع جميع الشبان إلا أنا، تحدثهم عن ثراء أبيها، وقصوره، وضِياعه، بعفوية بالغة.
ولعلّ سكوتي أثار فيها ما لم تُثِره الكلمات، فما زالت تتعمد سؤالي في الدرس فأجيبها، دون أن أرفع طرفي إليها. ثم سألتني بصراحةٍ عجيبة: أتحقرني؟
أجبتها: بل أُكرمك، فإنما أكلّم عقلَك، أما جسدُك فله حرمةٌ، لا يجوز في ديني أن أتعداها.
كانت كلماتي سهمًا دخل قلبَها فشقّ حُجب الغفلة، فإذا بها تُكثر السؤال عن ديني، وأقبلت تقرأ معاني القرآن، وتتأمل ما فيها عن عيسى عليه السلام فانبهرت.
وما مضت إلا أيام حتى رأيت عندها انجذابًا، لا أدري أهو إلى الحق أم إليّ.
ثم جاءتني وبريق عجيب يتلألأ في عينيها وقالت مباشرة: أريد أن أصبح مسلمة!
سررت سروراً لم أجد مثله من قبل، فهنأتها ثم اصطحبتُها إلى المركز الإسلامي.
وهناك قال لها الشيخ: رددي وراءي: (أشهد أن لا إله إلا الله)، ففعلت. ثم قال: (وأشهد أن محمدًا رسول الله) فصمتت!
قالت: لا أشهد لرجل لا أعرفه! إنما أشهد لعيسى فقد عرفته وآمنت به.
قال لها الشيخ: شهادتكِ لا تُقبل حتى تكتمل، فاقرئي سيرة نبيّك محمد ﷺ لتعرفيه كما عرفت عيسى عليه السلام.
وأعطاها كتبًا ومنشورات، وأصبحتُ أنا معلمها، فشرحتُ لها ما عسر عليها، و تصفحنا سيرته و شمائله ﷺ التي لا يُدانيها إنسان.
فلما وصلنا إلى البيعة، أخبرتُها ما كان مِنّ ثلاثتنا من عهد في مسجد البيعة.
ذرفت الفتاة دموعًا حرّى، وقالت: أشهد أنه رسول الله، وأبايعُ على ما بايعتم عليه.
وما لبثت أن صارت في دينها كما صار الصحابة: طاعةً، وتفانيًا، وإخلاصًا، ومحبّة.
فلما علم أبوها غضب، وأرسل محاميًا ينذرها، إن هي لم ترجع، حُرمت الميراث ومنعت النفقات.
ولكنها قالت بحزم: كلا والله! لقد بايعت، ولن أنقض عهدي أبداً!
تابع عبد الله: وكان لا بد لنا من الافتراق، فلا رابط شرعي يربطنا.
وإذ بها تخطبني إلى نفسها بصراحتها المعهودة، فلم أتردد في الزواج منها، بأقل المهر، وأعظم الحب، حبًّا في الله.
جاءت معي في زيارةٍ إلى بلادي، فلم تبارك والدتي زواجي بها، وهددني والدي قائلاً: لن أنفق عليك قرشًا في الجامعة، طالما هي على ذمتك! وكانوا قد اختاروا لي فتاةً من العائلة، أبهى وجهًا، وأشرف نسبًا. لكنني كنتُ أحبها هي، ولم يُصغِ إليّ أحد.
رجعتُ إليها مغموماً مهمومًا، ففهمتْ ما حدث، وألحت عليّ طويلاً كي أطلقها، وحين فعلت، اختفت عن ناظري!
رأيتُ في منامي أنها تقصّ خصلةً من شعرها، وتمنحني إياها، ثم تختفي.
راودني إحساسٌ أنها ربما ترتد عن الإسلام، بعدما رأت من جفاء من ينتسبون إليه، فشعرتُ أن الذنب ذنبي فعظمت مصيبتي.
تخرجتُ وعدتُ إلى بلدي، وقد فقدت الرغبة في الزواج، وفي الحياة، ولازمتني كآبةٌ ثقيلة شهوراً طويلة، فاغتمَّ والدايَّ لحالي وندما.
وفي يوم كان أسعد أيامي، دخلت امرأةٌ إلى مكتبي بالجامعة، وكشفت عن وجهها، فخفق قلبي… إنها هي!
قالت برزانة: أدركتُ أن طلاقنا كان امتحانًا لإيماني؛ هل أسلمتُ لأجلك أم لأجل الحق؟ وزادني هذا تمسّكًا بديني، فكافأني الله بمنحة دراسية، ثم عمل في جامعة إسلامية. فالحمد لله.
وتابعت: ثم جاءني من يخبرني عن حالك التي وصلتَ إليها، فعلمتُ أنك أُكرهتَ على طلاقي.
وها أنا ذا أقول لك: هل تقبل بي زوجة من جديد؟
هكذا ببساطة! عادت إليّ، كما عرفتها، بعفويتها، وصراحتها وإيمانها.
أخبرتها برؤياي، فأولته بالتحلل من الإحرام.
وبالفعل يسر الله لنا الحج في هذا العام، فلله الحمد والفضل.
أشارعبد الله إلى محراب مسجد البيعة وقال: هناك تركت زوجتي، تُجدد بيعة لم تنقضها يوماً، فليتني وفّيت وفاءها!
تذكر صديقاه رؤاهما أيضاً وحاولا تأويلها. قال عثمان: ربما تشير الحصوات في منامي إلى رمي الجمرات، على عدو الله الذي أغواني بالولاية.
قال غياث: لعل معنى (فلا اقتحم العقبة) في الرؤيا هي دعوتي إلى مسجد العقبة!
صاحوا: الله أكبر!
تردد صداها في أرجاء مسجد البيعة، لكنها لم تنطلق خارجه، لأنه بلا مئذنة.
الفصل السادس: الأمير
بدأ الأصدقاء يتساءلون: كيف اجتمعوا في مسجد البيعة، بعد مضي ربع قرنٍ من الزمان؟! أهو محض صدفة؟
قال عثمان: أما عني فقد تلقيتُ دعوة للحج، مكرمة من أمير لا أعرف من هو، ولولا تلك الدعوة ما استطعت إليه سبيلاً.
فنظر صاحباه إلى بعضهما مندهشين، فقد جاءا إلى الحج أيضاً بدعوة من أمير!
وبينما هم كذلك، سمعوا من ورائهم صوتاً رخيماً يسلم عليهم!
وإذ برجل يتقدم نحوهم على كرسي متحرك، وجهه يشعّ بالسكينة، وثيابه تشي بالعزّ والهيبة.
اقترب أكثر فعرفوه، فصاح الثلاثة معًا: خلدون!
قال: نعم، هو أنا، أمير على كرسي متحرك!
كان الصمت سيد الموقف، إلى أن قطعه خلدون بكلمات الترحيب والاشتياق،
ثم قال: يقيت كما عرفتموني أزهو بثراء عائلتي، وتدرجت في منازل الجاه، حتى بلغت مقام الأمير، فانقلب زهوي إلى كبرياء.
وأضاف في حزن: لكن حادثاً أليماً أقعدني عن المشي، فأراني الله عجزي، وردَّني إليه تائبًا منيبًا.
وعزمت – بما أفاء الله عليّ من جاه وثروة – أن أوقف حياتي على أعمال البر.
فكرت، فرأيتكم أحق الناس ببرّي، إذ لا أهل لي ولا ولد، فكنت أرقب أحوالكم في الخفاء، وأرعى شؤونكم من حيث لا تعلمون.
قال عبد الله والدموع تترقرق في عينيه: أنت إذن من تكفل بعلاجي، وأهداني ساقًا أقوم بها في صلاتي وأسعى في حياتي ؟
قال عثمان: والرجل الغريب الذي تركني أتفكر في ضعفي، أتراك أنت من أرسله؟
قال غياث متأثرًا: وأنت من أخبر زوجتي بحالي بعد فراقي، وأقنعها بالرجوع إليّ؟
ابتسم خلدون وأطرق حياءً وقال: كان ذلك بتوفيق الله، فله الحمد وحده!
التفت نحو مسجد البيعة وأشار إلى النقش الثالث وقال: لقد كلفت باحثين فطنين، فنقبا في الجدار، حتى عثرا على هذا النقش مطموسًا بالطين والكلس. لا نعلم، لعل عدواً للمستنصر أخفاه، أو لعل الزمن كان العدو.
أمعن النظر في المسجد وقال: هنا بايع رجالٌ الله فصدقوا! اللهم اجعلنا منهم.
قال عبد الله: لنجدد بيعتنا،ولنعزم عزيمة الرجال أن نصدق كما صدقوا؟
أجاب خلدون بحزم: لا!
التفت الجميع إليه، وقد تذكروا خلدون القديم!
ابتسم خلدون فأشرقت ملامحه، ثم بيَّن لهم: يا إخواني، إن العهد مع الله لا يرتبط بمكان.
إن المسلم يجدد بيعته كلما قرأ في صلاته ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وفي أذكاره: “وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت”، وفي كل طاعةٍ يعملها، وفي كل معصية يتجنبها.
إن زيارة المواضع المشهودة تذكّرنا بالمواقف العظيمة، لكن العهد محله القلب.
غادر الرجال مسجد البيعة ليتمّوا حجهم، وبعد ذلك انطلقوا إلى معلمهم العجوز، حيث لا يزال في حلقته في مكة يعلم الفتيان…
النهاية